الرئيسية / آراء حرة / دراسة موجزة  في  الفلسفة الاسلامية – كتاب فلسفتنا أنموذجاً

دراسة موجزة  في  الفلسفة الاسلامية – كتاب فلسفتنا أنموذجاً

الجزء الرابع: مقاربة فلسفية بين فلسفة الصدر و الفلسفة الاسلامية

كتب : أمجد حميد

ان مسعانا  الاساسي  مذ  قدمنا اول حرف  من  هذه  السلسلة و الى ان تنتهي هو تقديم  صورة  نقدية  شاملة و  عامة للفلسفة الاسلامية بشكل عام و لهذا الكتاب بشكل خاص . لذا فنحن نحمل على عاتقنا مسؤولية  نقدية اكثر من ان  تكون  مسؤولية فلسفية , فانا بالنهاية لست سوى  فتى يعيش العقد  الثالث من عمره حاملاً  خزيناً  معرفياً  كافياً باعتقاده – لنقد  فلسفة ما  تربطه بشكل مباشر بمجتمعه و واقعه بصورة حتمية . لذا فنحن ننوه المتلقي باننا نتكلم بلسان ناقد و ليس بلسان فيلسوف. لان مجموعة كتب او خزين معرفي لشخص عشريني و ليس من ضمن اختصاصاته لا تؤهله بشكل كلي لإعطاء تقييمات فلسفية متكاملة بل جزئية.

ينطلق التحليل الفلسفي  الخاص بمحاور فلسفة الصدر من نقد المحطات الفلسفية و تحديد نتائج ما استخلصناه من شرحنا النظري  السابق لها , و ذلك بمقارنتها و  اخراج الفوارق  بينها و بين الفلسفة الاسلامية التاريخية في  بادئ الامر قبل الولوج اليها , و هذا ما سيجعلنا نحدد اولا المفاصل الاساسية التي اختلفت فيها فلسفة الصدر عن الفلسفة الاسلامية التاريخية . أن التحليل النظري الذي سبق قد بين لنا الفاصل التام بين فلسفة الصدر و الفلسفة الاسلامية بشكل عام , ما امكننا اختصاره في نقطتين محوريتين: عدم وجود تجديد واضح (في فلسفتنا فقط واوضحنا ذلك) بل محاولة استرجاع ما انشأه الفلاسفة السابقين للمحاججة به , مسالة التنوير و محاولة التقييد به بين الفلسفة القديمة و الحديثة.

 فإما ما نقصده بغياب التجديد , فهو المحاولة الدورية من قبل الصدر لتبيان حلول المسائل الفلسفية و وجودها قبل كشف و مناقشة المسألة تاريخياً من الاساس , بعرض من رد عليها او ما هي الفكرة التي دحضتها من قبل وجودها , جاعلاً الامر اشبه بقلة معرفة المدارس الفلسفية و  تقصيرها  بالاطلاع الشامل الذي سيجنبها مثل هكذا معطيات فلسفية . يؤكد لنا هذا ان اسم (فلسفتنا) يعني الفلسفة الاسلامية القديمة و ثوابتها بالنسبة للصدر , خالية بذلك من اي اضافات او تطوير فكري من خلاله في هذا الكتاب . و ما يزيد الامر تأكيداً ان المحاولة التجديدية للفلسفة الاسلامية قد بلغت اوجها في الكتاب الذي تلى هذا  الكتاب و هو (الاسس المنطقية للاستقراء) ما يجعلنا نشك بان الصدر – بحسب رأيي المحللين لكتابه  ايضاً – كان مدركاً لاحتمالية سقوط جزء من المبادئ التقليدية بعد هذا التطور الفلسفي الشاسع الذي اراد اسقاطه لأجل مسلمات عقائدية  دفعته لذلك  . و لا نريد الاسراف في مبحث التجديد و اللاتجديد عند الصدر لأننا سنتبين لاحقاً الاهداف الاساسية لوجود هذه الفلسفة , و التي دفعته للالتزام بالقوانين  الوضعية المتعارفة لديهم , لكن يتعين علينا ان نضع بعض الاثار لكي يتمكن المتلقي في كل زمان و مكان ان يتقفى بعد ذلك اثر ما نعنيه بكامل صورته , و احد هذه الاشارات التي سنكتفي بذكرها هي اشادته لفلسفة الحركة الجوهرية التي تبناها صدر الدين الشيرازي , معتبراً اياها احد الادلة على نقض فكرة الديالكتيك و كافية لهدمها من ناحية فكرة الحركة و السكون , لكن الصدر لم يدرك ان فلسفة الشيرازي بذاتها قد حملت لوناً من الوان الجدل و حمل الاضداد الذي ينبش عنها كل فيلسوف ماركسي لأثبات فلسفته , فلا يفصل الصدر  عن استشهاده سوى ثلاث سنوات من اصدار الفيلسوف هادي العلوي كتابه “نظرية الحركة الجوهرية عند الشيرازي” مبيناً كمية التلاقي الموجودة بين فلسفة الشيرازي و الفلسفة الديالكتيكية , و هذا ما لم يلاحظه الصدر –او قام باستغفاله ربما لدواعي شخصية – للأسف حين قام بنقل و تناول هذا الموضوع الذي تحول من اثبات لفلسفته الى دليل لبطلانها . يقول هادي العلوي في اثر ذلك :

لقد نظر الملا  صدرا الى الاضداد وهي تتالف و تتعايش  , وعجز عن رؤيتها  وهي تتصارع , وربما جاز لي أن أتبين من هنا أن ميدأ وحدة الأضداد يخدم  عنده هدفاً منطقياً يتعلق بالحاجة الى اثبات نظريته في التحول الجوهري قبل ان يكون فقرة في مشروع لتفسير العالم كما أراده  سلفه. ولعل مما يرجح هذا الافتراض أننا غالباً ما نعثر على تطبيقات لهذا المبدأ في براهين الحركة الجوهرية , وفي  مواضع حرجة ما كان بوسعه أن يتخطاها لو لم يفزع الى الجمع بين الاضداد.” (“نظرية الحركة الجوهرية عن الشيرازي”, ص130)

بالنسبة للجانب التنويري الذي يعتبر ثغرة اخرى في فلسفة الصدر  , فنحن لا  نقصد غيابه الكامل في فلسفة الصدر بقدر ما نقصد محدودية افاقه و محاولة تكريسه لأجل الافكار الذاتية  و الدينية . ان المنهجية التحليلية التي  اتبعها  الصدر في كتابته كانت منهجية فكرية محددة اكثر مما  هي  تنويرية , فهي لم تشد  ابداً  بالتعدد الفكري و احتماليته بقدر  ما بينت مبادئه و تركيبها  لكي  يتسنى له انهائها و اعلاء  منهجيته الدينية  . و ليس  ذلك بالشهادة التي نعمد ان  نجعلها  برهاناً  لضحالة الاسس التنويرية في هذا الكتاب , بل نريد بذلك ان نعزي كمية الشواهد و المحاولات الفلسفية التي لجأ لها الصدر لتفكيك المدارس الفلسفية , لكنه لم يشأ ان يدخل ذلك في مسالة اللاهوت بشكل لا مبرر له , فنجده الذي كان ينادي بالفارق  بين العلة الفاعلية و المادية يستخدم نفس المغالطة التي اتهم بها الجمهور الماركسي و يقول بشكل ساخر :

فهذه  ثعابين الماء تهاجر من مختلف البرك و الانهار الى الاعماق السحيقة , لتضع بيضها , و قد تقطع في هجرتها الاف الاميال , لانتخاب البقعة المناسبة , ثم تضع البيض و تموت , و تنشأ  الصغار , فتعود بعد ذلك الى الشاطئ الذي جائت  منه اماتها , و كانت قد أشبعت خريطة العالم تحقيقاً  و تدقيقاً . فعلى يد  من تلقت صغار الثعابين دروس الجغرافيا؟!” (“فلسفتنا”, ص402)

و من المؤسف ان نرى مثل هذه  الاستشهادات البسيطة التي لا تعبر ابدا عن حجم الصدر  و  فلسفته و كتابه , و التي نراها من ابسط الخلق الذين لا يملكون من المعرفة و ادواتها ما يكفي  لتوضيح و فهم ان علم الجينات الحديث و التطور يبين ان الكائنات المهاجرة ترتبط الرحلات التي لديها بعوامل جينية و بيئية , و هي ما ترسم هجرتها  . بالإضافة الى اللبس الحاصل  في كلام الصدر اذ  ان هجرة الثعابين التي يتكلم عنها لا تحدث بدون مؤشرات بيئية لهذه الثعابين , فهذه الثعابين اصلا تقوم بركب تيارات المد الموجودة في مياه الخليج التي تريد الذهاب اليها , صانعة بذلك السبيل الوجودي المعتاد لحياتها . و بغض النظر عن هذا كله فهو بهذا الكلام قد الغى العلم و البيولوجيا و نسي ما كان يشيد به من العلة المادية و الفاعلية التي قد تكون اثر اي شيء تكويني بعيد كل البعد عن اله او الله .

في  مثل هكذا استنتاجات يترتب علينا ان نغوص  في  اعماق  العقلية البنيوية التي تغذي  هذا الكتاب و تدعمه , فكل فيلسوف يملك  خلف فلسفته اغراضاً و غايات بعيده كل البعد  عن القضية الاسمى و هي المعرفة . و لا يبدو للقارئ  العزيز مهمة استخراج اهداف و غايات الكتاب بالأمر الصعب بعد طول الشرح عن الجوانب التي يحملها هذا الكتاب. ان اهم الاغراض الاساسية التي حملتها فلسفة الصدر على عاتقها هي مواجهة التيار الحديث من جانبه الفلسفي بشكل خاص في هذا الكتاب , هذه التيارات التي اصبحت مؤثرة على الوسط الديني بشكل علني و تنادي بكل ما يبلغ صوتها من مدى  بوهمية وجود الاديان و بطلانها . هذه المواجهة جعلت من الكتاب اداة حرب يستخدمها متبعون الاديان و المسلمين ان جاز التعبير للدفاع عن هويتهم و عن معتقداهم بدون وعي و تمييز بين الحقائق التي يطرحها الكتاب و الآراء الشخصية التي يحملها , فالكتاب في اوله  لا يبدو للمطلع – في ظواهره الواجبة عليه الظهور بها – انه كتاب فلسفي او كتاب يطمح لنقد مدرسة فلسفية , بل ان الصدر يبدأ الحديث وكأنه يطمح لتناول موضوع سيسيولوجي لا فلسفي في قوله :

ما هو النظام الذي يصلح للانسانية , و تسعد به في حياتها الاجتماعية؟” (ص19)

و بالرغم اننا نتفق بان ارتباط الفلسفة بعلم الاجتماع ارتباط وثيق , لكنه لا يصل الى درجة محورته في محاولة نقدية لمدرسة فلسفية شاملة مثل المدرسة الماركسية , فهناك جوانب اوسع و اعمق تستحق ان تكون لها المحورية في بحثه , لكن هذا هو ما نستدل عليه لتوضيح ان غاية الفلسفة الماركسية كان شامل بتضمينه بصورة اساسية الغاية الفلسفية ,  عكس الغاية التي حملها الصدر المرتبطة بالمجتمع بشكل عام و بأمر سياسي يشترك به مع الاولى بشكل خاص , و في هذا كلام لاحق في هذا البحث نكتفي للإشارة له هنا فقط .

و كأي كاتب يقوم بتحديد مثل هكذا غاية , و بغض النظر عن شرعيتها او ارتباطها بالفلسفة ام لا, سيتوجب عليه تحديد طرق نقدية محددة لمواجهة هذه المدرسة الفلسفية و صرامة قوانينها  و معطياتها الفلسفية , بشكل يلائم ايضاً العقلية البسيطة التي من المفترض لها ان تطالع و تعتمد على هذا الكتاب . و بالرغم من قيام الصدر باستخدام العديد من الطرق المختلفة , سواء المنتظمة منها او الملتوية كما اشرنا في الامثلة السابقة , فان اهم الطرق التي اعتمدها محمد الصدر في مواجهة الفلسفة الماركسية هي التسلسل التاريخي الذي اسفر عن تشكيل هذه الفلسفة و نقدها و تفنيدها , و ملئ الفجوة التي ستتكون من تفنيد الموضوع بعدها من خلال احلال محلها فكرة تتناسب و مناهج الاديان بشكل عام و الاسلام بشكل خاص.

نتيجة ذلك لن نرى ترجمة لمثل هذه المعطيات سوى ان اهداف هذه الفلسفة لم توجد الا لأجل أعادة التجديد و اشراك الاسلام في الميادين المعرفية الحديثة , و ايضاً لأجل صنع هيكلية معاصرة للمدينة الاسلامية الفاضلة و التي تعتمد على اسس قديمة ذات مناهج حديثة مصطنعة. فأما التجديدية المعرفية التي هدف لها الصدر لم تتحقق للأسف في هذا الكتاب كون ان التجديد يتطلب تضحية في المعارف المتوارثة ضمن اسس نقدية تحل محلها معرفة جديدة و تداولية اكثر من سابقتها , ولم يكن الصدر مستعداً لهذه التضحية لان الشارع الذي كان يريد ان يلتجأ له لن يرى التجديد الا تشبيهاً و رضوخاً لأفكار عصره فيبطل مسعاه في الكتاب , لذا كان كتاب “الاسس المنطقية للاستقراء” هو الكتاب الذي اراد الصدر ان يحقق و يكمل غايته بشكل فعلي بعد ان كانت بشكل اسمي في كتاب فلسفتنا . و اما المدينة الاسلامية الفاضلة فهي الاتجاه السياسي الباطني الذي اراده محمد الصدر في الكتاب اذ ان ادراكه التام بان المواجهة الفكرية يجب ان لا تكون مقتصرة على السطور و  حروفها بل تخرج الى الساحة و حكامها , جعله ينتهج منهجاً سياسياً خافتاً و تبشيرياً  في كتابه هذا و سلسته الباقية , و التي تعالج باقي المسائل و العلوم الحديثة , و هذا يعتبر اسمى الاهداف بالنسبة للصدر كونه جعل الكتاب هذا بوابة و نقطة انطلاق للمساعي السياسية على ارض الواقع , اي ان تكون المنهجية السياسية اعم من ان تواجه تيارات محلية او اقليمية بل تؤسس لمواجهة التيارات العالمية بأسس علمية مقبولة , هذا ما يجعل من الفلسفة المتناولة في هذا الكتاب فلسفة هدفها سياسي بغطاء معرفي , ما يجعل الامر محتاجاً لشرح و تفصيل اكثر في مبحث منفصل .

لا نريد تبيان ان الفلسفة الاسلامية كونها اسلامية فهي تمتلك ثغرات مختلفة بذلك عن اقرانها , لكن نبين ان لكل مدرسة فلسفية فجوات يتم خلقها بشكل مباشر او غير مباشر من المعطيات و القوانين التي تحملها هذه الفلسفة , او حتى بسبب ظروف زمكانية عاشها افراد هذه المدرسة و كانت قاهرة على عقولهم . يتلخص  من السابق ان اهم الثغرات التي تحملها فلسفة الصدر هو القلة المعرفية لديه بغض النظر عن اسبابها , بل ايضاً توظيفه الهدف السياسي و المجتمعي لا الفلسفي , و الذي جعل منها قيداً دينياً و حجه على من يريد الاطلاع على الفلاسفة بان يكون البديل دوماً هو كتاب محمد الصدر , كي لا يكون بعد النظر المجتمعي خارج الاطر المناسبة و الموضوعة لهم من قبل رجالات الدين . و بالرغم من ان هذا الجانب سجل نجاحات سنناقشها في المبحث القادم الا انها  تبقى ثغرة يعول عليها لاي فيلسوف , فان تكون السياسة هي موضوع فلسفي غير ان تصاغ الفلسفة لاجل غايات سياسية , وكذلك الامر مع الامور المجتمعية .

يتمثل الاستدلال الاستهلالي لاثبات ما ذكرنا و ادعينا من غايات الصدر في فلسفته في مسألة علم المنطق و اعتماده عند الصدر . فان كل المؤشرات النقدية تبين تركبز الصدر جل قواه لاي محاولة فلسفية لتعزيز دور و اهمية التصور , كون ان تحقيق ذلك التعزيز سيحرم الجانب الديني من ميزتين : المعارف الضرورية الثابتة و الاسس الاستنباطية التي  تمثل ورقة الانتصار على كل  محاولة تهديم للاسس الدينية . لم يسعى الصدر في طرحه للخضوع لمناهج  الفلسفة و تراثها الفكري الذي نشأ في عصر  التنوير والحداثة , بل  قام بصياغة الطريق النقدي  لتحليل  و دحض المدرسة  الماركسية بموجب التعاقبية الاسلامية التراثية كما اوضحنا مبادئها سابقاً ,  و قد نجح في  بعض  الجوانب و فشل في بعضها الاخر . فحين قام بمناقشة  التطور  التاريخي للجزء الاول من الادراك و هو التصور ,  اوضح فيه  بشكل جلي  المسار التطوري  الفلسفي  لهذا الجانب و أكد ان الفلسفة الماركسية اتخذت من النظرية  الحسية التي بدأت على يد جون لوك . يزعم الصدر  ان هناك  جملة من المفاهيم و التصورات هي خارجة عن اطر الحس  كمفهوم احادي البعد :

و يمكننا أن نوضح فشل النظرية  الحسية في محاولة ارجاع جميع مفاهيم التصور البشري الى الحس , على ضوء  دراسة عدة من مفاهيم الذهن البشري كالمفاهيم  الاتية : العلة و المعلول , الجوهر و العرضض و الامكان و الوجوب , الوحده و الكثرة , و ما الى        ذلك من مفاهيم و تصورات.” (فلسفتنا , ص78)

يتبين  من النص اعلاه محاولة الصدر لتبيين الحدود التي تنتهي بها  الجانب  الحسي مدعياً  ان هذه المفاهيم لا نحصل على  تصوراتها  من خلال الحس , بل نحصل عليها حين تكون النظرية التصورية  ذات بعدين كما  نادى بها الصدر و اعتمدها  من ابن سينا اذ يقول :

تتلخص  هذه  النظرية في  تقسيم التصورات الى قسمين  : تصورات اولية , و تصورات ثانوية. فالتصورات الاولية هي  الاساس التصوري  للذهن البشري , و تتولد  هذه  التصورات  من  الاحساس بمحتوياتها بصورة  مباشرة . . . و ينشأ الذهن بناءً على هذه القاعدة التصورات الثانوية , فيبدأ  بذلك دور الابتكار و الانشاء . . . و هذه المعاني الجديدة خارجة عن طاقة الحس و ان كانت مستنبطة و مستخرجة من المعاني التي يقدمها الحس الى الذهن و الفكر.” (فلسفتنا و ص80)

و لا ننكر ان الصدر قد نجح تقريباً في تسقيط  جانب المدرسة الحسية التي واجهها بهذا الشكل على حساب مواجهة المدرسة الماركسية , الا انه لم يحقق غايته بشكل  كامل اذ انه لم يرتضي شرحاً وافياً لما  حاول ان يحله الفيلسوف ديفيد هيوم  و انكر فكرة تداعي المعاني على ضوء انكار هيوم لمبدا العلية , و التي سيواجهها هو ايضاً بعد ذلك. يقول الصدر في ذلك :

وقد كان ديفيد هيوم-احد رجال المبدأ الحسي- أدق من غيره في  تطبيق الظرية الحسية . . . فأنكر مبدأ العلية , و ارجعها الى عادة تداعي  المعاني قائلاً: اني  ارى كرة البلياردو تتحرك  فتصادف كرة اخرى فتتحرك هذه , وليس  في حركة الاولى ما يظهرني على ضرورة تحرك الثانية  . . .” (فلسفتنا , ص79)

و لا استطيع استيعاب  من اي مصدر اقتبس  الصدر  منه هذا الكلام او حتى كيف  استدل على مثل هكذا ادعاء فهو لم يذكر قط المصدر , لكني اعتقد ان هذا الكلام قد اخذه  الصدر من شخص اقتبسه بشكل تأويلي منه من كتاب هيوم “تحقيق في الذهن  البشري” , و يزيد الامر تاكيداً على قلة فهم  الصدر  هذا  المفهوم هو عدم ادراكه ان هيوم لم  ينفي  وجود العلة بشكل كامل بل استبدل  مفهومها بمفاهيم اكثر  شمولية و استيعاباً و ترابطاً مع الاستدلال المتفق عليه لاي عملية تصورية و هي التجربة :

و رغم ان ارتباط الافكار المختلفة قد بلغ من البداهة ما لا يمكنه معه أن يدق عن الملاحظة , فاني لا ارى من الفلاسفة من حاول احصاء مبادئ التداعي او تصنيفها , و هو  موضوع جدير بكل حرص  .  و عندي فانه يظهر انه ثمة ثلاثة مبادئ للترابط بين الافكار , و هي  التشابه , التماس  في  الزمان و المكان , السبب و المفعول.” (ديفيد هيوم , “تحقيق في الذهن البشري” , ص48 )

و لم يقتصر الموضوع على قلة المعرفة في  مسألة هيوم  فقط , اذ انه استخدم  التفنيد الشاحب لمواجهة  هيوم في ما رماه  عليه  في  مسألة انكاره التام لمسألة العلية , بل تجاوز  الامر تغفيله لما استخدمه على هيوم بتطبيقه  على نفسه . يرد الصدر على ما رماه  على  هيوم :

و لكن مبدأ العلية كفكرة تصديقية شيء , و مبدأ العلية كفكرة تصورية  شيء  اخر , فهب  أنّا لم نصدق بعلية الأشياء المحسوسة بعضها لبعض , و لم  نكوّن عن مبدأ العلية فكرة تصديقية , فهل معنى ذلك: أننا لا نتصور مبدأ العلية أيضاً , واذا كنا لا نتصوره فما الذي نفاه (ديفيد هيوم)؟ و هل ينفي الانسان شيئاً لا يتصوره؟!” (فلسفتنا , ص79)

على نفس  هذا المبدأ الضحل نطبق  على  الصدر  ما امن به اذاً و  نقول: ان  التقسيم التصوري الذي استند عليه الصدر اساسه تكاملي لا تنوعي , اي ان التصور الاولي و الثانوي مكونان  مترابطان  و ليسا مفصولان , بمعنى ان لا وجود لتصور ثانوي  بدون تصور  اولي . فنستنتج من ذلك ان كل التصورات الثانوية تكون ملازمة لتصورات اولية و مفروض وجودها ,  لذلك فان مفهوم العلية الذي يدافع عنه الصدر حتى  و ان كان مفهوماً ثانوياً فهو يجب ان يمتلك مفهوماً اولياً يلازمه بحسب النظرية , و بناءً على ذلك فان التصور الاولي هو من اساسه تصور حسي مطلق , لذا فان الصدر قد اوقع نفسه في تناقض لا يظهر على  العقول المجتمعية  الصغيرة و هو  : هل ان العلية تمتلك –ولو بشكل غير مباشر –طابعاً حسياً ام لا ؟ فان قال نعم صدقت النظرية الحسية الماركسية بان العلية مرتبطة بالتجربة , و اما ان انكر حسيتها فهو سيخرج مفهوم العلية تماماً عن التصورات البشرية و الذهنية.

ينطوي الحقل الثاني من المحور الاول و هو حقل المعارف التصديقية على مجموعة ارتباطات داخل حدود المنطق و خارجها , اذ ان جانب التصديق بالنسبة للصدر لا يعتبر  احد المصادر الاساسية للمعرفة بل انه يظهر ايضاً  قيمة المعرفة في ان واحد , ما يوجب ارتباطه بمجموعة ملازمات تمثله و تكمل بنيته . يمثل الجانب التصديقي بالنسبة لمحمد الصدر من خلال اسس نجح في ترسيخ بعضها و فشل في اخريات: المعارف الضرورية او الكبريات العقلية , الاستنباطية و الاستقرائية , و الميتافيزيقية .

كان مسعى الصدر طول شرحه توضيح اهمية و وجوب وجود معارف عقلية مسلم بها  تتمثل ككبريات عقلية لا يمكن تجاوزها او الشك بها , هذه البديهيات العقلية ضرورية الوجود في فلسفة الصدر كون ان البنية الدينية حين تتحول الى بنية فلسفية تحتاج ان تطابق الهيئة التي نبعت منها و ان كان بشكل تأويلي , لذا فان احد اطراف المواجهة المستمرة بين الفلسفة الدينية و اللادينية هو ضرورة او امكانية وجود مسلمات عقلية و بديهيات فطرية دائماً لكي يتم من خلالها اثبات وجود خالق للكون ام لا بالنحو الفلسفي . يقول الصدر بصدد هذا الموضوع :

و اذا اردنا ان نتكلم عن مستوى ارفع قلنا: ان المعارف الاولية و ان كانت تحصل للانسان بالتدريج, و لكن هذا التدريج ليس معناه انها حصلت بسبب التجارب الخارجية, لاننا  برهنّا على ان التجارب الخارجية لا يمكن ان تكون المصدر الاساسي للمعرفة و بل التدرج انما هو باعتبار الحركة الجوهرية و التطور في النفس الانسانية.“(فلسفتنا, ص104)

استطاع الصدر بمهارة استغلال احد اكبر الثغرات الموجودة في المدرسة الماركسية من خلال المعارف التصديقية الموجودة في علم المنطق , ذلك ان الفكر الماركسي  قد ربط جميع المعارف التصديقية داخل حدود التجربة , مما سهل على اي فيلسوف  ديني او اسلامي دحض  هذا الادعاء باثبات اهمية الكبريات العقلية و البديهيات , و بلا شك  ان الشمولية التي طرحتها المدرسة الماركسية لم تجد الصواب ابداً حين الغت وجود فكرة المسلمات العقلية , فعدم الاعتراف بعدم وجود مسلمات عقلية مختلف تماماً عن عدم الاعتراف بمجموعة من المسلمات العقلية , و هذه الجزئية كانت لتنقذ الفكر الماركسي من المواجهات الدينية كون ان الكون زاخر بمجموعة لا تحصى من المسلمات الغير قابلة للشك , و لولا  هذه المسلمات لما تطورت و وصلت العلوم الى شكلها الذي نعهدها الان .

بالرغم من ذلك , لم يتمثل اثبات اهمية و حتمية وجود الكبريات العقلية نجاحاً تاماً بل ان هناك بعض الثغرات التي ظهرت ايضاً نتيجة ارتباطها بمعطيات اخرى تحتاج الى الاثبات , و هي مسالة الاستدلال الاستقرائي لدى الجانب الماركسي و الاستنباطي لدى جانب الصدر . لقد استخدم الطرفين كل نوع من الاستدلال لكي يلائم جانبه الفكري و معطياته , فيحقق اثباتاته من خلال الادوات الاستدلالية المناسبة له على حساب الفكرة نفسها , اذ نحن لا ننكر ايضاً كيف تم استغلال فكرة الاستدلال الاستقرائي من قبل الجانب الماركسي لتدعيم الحس التجريبي و ترسيخة ليتناسب و طبيعة الفلسفة التي يؤمنون بها , لكن في الوقت نفسه يجب الاعتراف ايضاً بان الصدر قد استخدم  نفس الاستراتيجية – بالرغم انها استراتيجية قديمة و متوارثة من الفكر الارسطي – لتدعيم فكرة اهمية وجود مسلمات عقلية يتم الاعتماد عليها قبل المرحلة التجريبية وبعدها . يذكر الصدر في  اثر ذلك:

أن مرد المعارف التصديقية جميعاً الى معارف اساسية ضرورية , لا يمكن اثبات ضرورتها بدليل او البرهنة على صحتها , و انما يشعر العقل بضرورة التسليم بها و الاعتقاد بصحتها, كمبدأ عدم التناقض ومبدأ العلية و المبادئ الرياضية الاولية.” (فلسفتنا , ص182)

لكن مثل  هذه المعارف التصديقية  قد انكر شموليتها  الصدر لاحقاً  كما  ذكرنا مراراً في كتابه “الاسس المنطقية  للاستقراء” اذ نجد التفاته حيادية ايجابية من قبل لجنة تحقيق كتابه  و تبيانهم الجاد  مسالة الانقلاب الفكري الذي حصل اذ نلاحظ حاشية الكلام السابق يذكرون فيها :

أشرنا  سابقاً الى انه (الصدر) قد انتهى في  كتابه  (الاسس المنطقية للاستقراء) الى امكان الاستدلال على القضايا الاولية و الفطرية بالدليل الاستقرائي في ضوء المذهب الذاتي للمعرفة , واستثنى  من ذلك مبدأ عدم التناقض و مصادرات الدلييل الاستقرائي. و في  نفس الوقت أكد ان هذا لا يعني رفض المصدر العقلي القبلي لهذه القضايا. بل انما يعني اننا  حتى حتى لو  استبعدنا العلم العقلي القبلي  بها يظل بالامكان اثباتها عن طريق  الاستقراء .” (فلسفتنا , ص182)

و هذه اشارة ايجايبة لتنبيه المتلقي للتجديد الفكري الذي حصل عليه الصدر في المراحل المتاخرة من حياته , و يطور من الرؤية العامة للقارئ الاسلامي – ان  كان هذا المراد و اشك في ذلك –بحيث يصبح مدركاً امكانية تغير المعرفة و اشكالها ليس فقط من جوانب علماء يربطهم التسلسل التاريخي , بل حتى التطور المعرفي الذي يحصل عليه نفس المفكر  عبر السنين و يساهم في تغيير فكره ايضاّ  , و بالرغم ان هذه النقطة تحتسب تفنيد لما نادى به الصدر في الكتاب بخصوص الاستدلال الاستنباطي الارسطي و نبذ الاستدلال الاستقرائي , الا انها  تمثل نجاح  الصدر المتاخر في اثبات احد اجزاء الفكر الماركسي و صحته –وان لم  يكن بنفس الصيغة الفكرية – و تطويره في الفكر الديني مع ازالة التاثير المعروف عنه بالغاء الجانب  الديني , و هذا النجاح يحتسب من جانب الصدر كاحد المساهمات البسيطة في تطوير الفكر  الديني و ان  كان مقتبساً من الفكر الماركسي .

يستند الحقل الثالث و الاخير في محور المعارف التصديقية على الجانب الميتافيزيقي على محور المادية و اللاهوتية , لانه يمثل البوابة التي  من خلالها نستطيع الانتقال الى مبحث المادية و اللاهوتية , بل ان حل الخصام فيها يمثل تحقيق و اثبات وجود احد الجانبين  , فان ثبتت الميتافيزيقية وجودها الكوني ثبت معها الاتجاه الالهي و العكس صحيح . بناءً على ذلك , نرى ان الصدر قد ركز على ثلاث عوامل  مهمة تمثل الفكر الميتافيزيقي انطولوجياً و ما حاول انصار المادية دحضه ايضاً  في ان واحد , و هذه العوامل ببساطة هي التجربة , نظرية الحركة و السكون , و فكرة الحقيقة المطلقة و النسبية , و لم ينجح الصدر كلياً في  تفنيد الاراء الماركسية سوى اثبات ضعف الجانب التجريبي لهدم الفكر الميتافيزيقي .

بالبحث التجريبي الذي تناوله الصدر بشكل مسهب و نقدنا  بعض الجوانب التي فشل الصدر في  تفنيدها بشكل  يستحق التصديق , قدم الصدر بعض الجوانب الايجابية التي استطاع فيها ان ينصر بها الجانب الديني على الجانب الماركسي التجريبي , و احد هذه الجوانب التي انتصر  بها هي الثغرة التي خلقتها الفلسفة الوضعية في المسالة التجريبية , و تحديداً في نظرية الامكان الفعلي و الامكان المنطقي بل حتى الفكر و ارتباطه بالمسائل التجريبية . يقول الصدر في ذلك رداً على  ما جاء من كلام الاستاذ اير :

و نحن نرى في هذه المحاولة ان الوضعية قد استعارت مفهوماً ميتافيزيقاً لتكميل بنائها المذهبي الذي شادته لنسف الميتافيزيقا, و ذلك المفهوم هو: الامكان المنطقي الذي ميزته عن الامكان الفعلي, و الا فما هو المعطى الحسي للامكان المنطقي؟ نقول للوضعية: ان التجربة ما دامت غير ممكنة في الواقع, فماذا يبقى للامكان النظري من معنى غير مفهوم الميتافيزيقي الذي لا اثر له على صورة الواقع الخارجي ولا تختلف المعطيات الحسية تبعاً له.“(فلسفتنا , ص118)

و هذه وجهة نظر حاسمة و التفاتة رائعة من الصدر بخصوص  الفلسفة الوضعية التي  عجزت عن الهروب  من الاثباتات الميتافيزيقة المتكررة , لان الامكانيات التي تقدمها  التجربة مهما استطالت و توسعت لن تخرج خارج حدود اطر معينه يتم تحديدها حسب الامكانيات و التقنيات الميكانيكية و الفكرية التي وصل اليها العالم , لذا كان من المتوقع ان تظهر جزئية الامكان المنطقي و الفعلي لتغطي هذه الثغرة , بل ان الامر يتعدى عند الصدر هذه الحدود و يشيد بثغرة اخرى تدعم ما سبق و هي مسالة ارتباط الفكر  بالطبيعة او  كما وصفوه بانه  نتاج لها اذ يقول :

أوليس الفكر الميتافيزيقي أو المثالي فكراً, و بالتالي جزءاً  من الطبيعة و نتاجاً لها – في الزعم المادي؟! – أوليست جميع محتويات العمليات الفيزيولوجية ظواهر طبيعية و نتاجاً  للطبيعة؟!” (فلسفتنا , ص203)

لم ينجح الصدر من الخروج من افق الجمود الفكري الذي  يفرضه الحكم الاستنباطي الاولي له كما نجح في التفنيد  للمسالة التجريبية من الناحية الميتافيزيقية . لقد  التزم  الصدر –وفرض عليه بسبب الالتزام بالمبدأ الاستنباطي – بقضية الحقائق المطلقة  و الغير متجددة في هذا  الكتاب بالرغم من تخليه عنها في كتابه الذي تلاه و هو “الاسس المنطقية للاستقراء” . ينقل الصدر رايه في ذلك : 

ان الحقيقة لا يمكن ان  تتطور و  تنمو,  وان تكون محدودة في كل مرحلة  من مراحل  تطورها بحدود تلك المرحلة الخاصة , بل لا تخرج الفكرة – كل فكرة – عن احد الامرين : فهي اما حقيقة مطلقة و اما خطأ.” (فلسفتنا , ص214)

و العجيب بالامر ان الصدر  يحل هذه المعضلة بشكل اشبه ان يكون سطحياً , مبيناً ان الحقيقة المطلقة و ان تعددت اشكالها فان معطياتها محكومه بزمكانية الحقيقة , فان غليان الماء في درجة مئة حقيقة مختلفة ان اكتشفنا غليانه في تجربة اخرى بدرجة 90 مئوية . هذه الطريقة المبسطة ليست  كافية للاسف لمواجهة التسلسل الواقعي للحقائق تحت اثر التجربة , لان الصدر بذلك يبين مجملاً ان الحقائق المطلقة التي ينادي بها غير محدودة العدد و لا يمكن استحصالها ابداً , فنحن ان اعتمدنا على الاستدلال الاستنباطي فيجب ان لا ننسى ان هذا الاستدلال يعتمد على مبادئ و كبريات عقلية نستمد منها الاحكام الخاصة , فهل ان وجدنا الماء يغلي بدرجة 90 او 80 او حتى 70 فاننا نمتلك مسبقاً كبريات عقلية لها نستطيع من خلالها –مع تطبيق مبدأ العلية طبعاً – ام ان كل هذه المعطيات لو اردنا وجودها فنحن نملك كبريات غير محصاة بعدد ؟ هذا هو ما لم ينجح الصدر في حله و استغلاله بشكل صحيح حتى كتابته كتاب “الاسس المنطقية للاستقراء” .

يمثل العامل الثالث محاولة اخرى فاشلة من قبل الصدر في مسالة الحقائق النسبية و المطلقة كونها تحمل تاثيراً اخر على الفلسفة الدينية التي يدعمها الصدر و خصوصاً الجانب الميتافيزقي لها , فارتباط الحقائق النسبية بجزئية البحث التجريبي كانت من نصيب العالم انجلز في بحث الصدر , و يرد عليه في ذلك:

والفكر الميتافيزيقي لا يحتم على العالم الطبيعي أن  يرفض القانون نهائياً اذا ما تبين عدم نجاحه في بعض الحالات , لانه يعتبر كل حالة تمثل قضية خاصة بها, ولا يجب ان تكون القضية الخاصة بحالة ما خطأ اذا ما كانت القضية الخاصة بالحالة الاخرى كذلك.” (فلسفتنا , ص223)

لقد وقع الصدر في نفس الشرك الذي وقع به الفلاسفة الماركسيين بسبب عدم استخدامهم فكرة الحقيقة النسبية و استغلالها لاجل الجوانب الفكرية الخاصة , فكما اعتقد انجلز ان نسبية الحقيقة  تعني احتمالية حملها الصحة و الخطأ , فان الصدر ايضاً اعتقد ان وجود حقيقة نسبية ستنفي الفكر الميتافيزيقي و يسند الراي الماركسي ضده  , و الجهتان مخطاين فلسفياً في ذلك , فالحقيقة النسبية لا يشترط انها تحمل الصواب بجانب و الخطأ بجانب بقدر ما تتضمن وجود مجموعة احتمالات داخلية و مختلفة الكثافة النسبية حسب معطياتها , بل ان فكرة  الصواب و الخطأ تكون مجردة ايضاً و لا تتعدى حدود الاحتمالية , فوجود حقيقة نسبية تشملها احتمالية الصواب و الخطا تترتب عليها وجود حقيقة اخرى تحل محل خطأ الاولى , و هذا للاسف  لم يفهمه  الصدر ايضاً محافظاً على ماهية الصواب و الخطأ كمعطيات حتمية لا معطيات احتمالية كون ان الحقيقة كما تعاملنا معها نسبية , يعلق الصدر على ذلك :

و القضية البسيطة –باعتبارها قضية مفردة –لا يمكنأن  تكو حقيقة من ناحية و خطأ من ناحية أخرى , فموت افلاطون قبل ارسطو اما ان يكون حقيقة و اما ان  يكون خطأ.

و اما القضية المركبة فلما كانت في الحقيقة ملتقى قضايا  متعددة, فمن الجائز ان تكون الحقيقة في  جانب  منها و الخطأ في  جانب اخر . . . ولكن ليس معنى ذلك : ان الحقيقة و الخطأ اجتمعا فكانت القضية الواحدة خطأ و حقيقة.” (فلسفتنا , ص224)

هكذا يتضح ان الصدر قد ظن في تمييزه بين الحقائق القابلة ان تكون مطلقة و الحقائق الممكنة ان تكون نسبية قد استطاع في ذلك الغاء المسالة النسبية من خلال ثنائية الحقيقة و الخطأ , و في الواقع ان المسالة النسبية بامكانها ان تتحقق ايضاً في المسائل التي اعتقد انها مطلقة لكن لم يفلح باعطاء امثلة فعالة برايي , فمسالة موت افلاطون قبل ارسطو لا نملك من الادلة القاطعة عليه ليكون حقيقة مطلقة سوى الموروثات التاريخية , فهو بذلك لا يستطيع ان يجزم بان لا توجد هناك نسبة للخطأ في هذه المسالة , فما راي الصدر لو وضعنا مثالاً نقول فيه : لا يعيش الانسان بدون تنفس , فنحن نرى ان لا احتمالات اخرى في هذه المسالة ما جعلها قضية حتمية  نعطي صحتها مقابل ان نقول : يعيش الانسان بدون تنفس  , و ان ما اضفى هذه الحتمية هو ان العبارتان حقائق مطلقة في  ماهيتها و مختلفة في صورها  , فالاولى صائبة و هو حقيقة مطلقة ,  و الثانية خاطئة و هذه حقيقة  مطلقة ايضاً نتجت من مسالة غير مطلقة اي نسبية, لكن وجود القضايا المركبة – كما وصفها الصدر – لا يعتمد فقط على احتمالين محددين بعدم وجود  شاهد  شاذ كما في الحالة السابقة, بل تعتمد على احتمالات متعددة تحمل كل واحدة في طياتها معطياتها التي تجعل اختيار جهة محددة مستحيلاً و تفرض كل الاطراف كيانها الواجب وجوده في نفس المسالة المحددة, اذ ان اختلاف شكل التمدد مهما تعدد فهو جزئيات نسبية تحقق منصبها في قعر المسالة المتناولة دائماً ,  وهذا ما يجعل الفكر الانساني خلاق دوماً اذ لو كانت كل الحقائق مطلقة حتمية ملتزمة بمبادئ معينه لانتهى التطور من زمن بعيد و استطعنا اختصار العالم كله في كتيب واحد فقط .

يعتمد المحور الثالث و الاخير للجانب الفلسفي للصدر و هو المادية و اللاهوتية ف على ركنين اساسيين استطاع من خلالهما كسر الجانب الالحادي بشكل نقدي جيد , و هذان الركنان هما : تدعيم المبادئ المعرفية الاساسية , و استغلال الاكتشافات العلمية الحديثة التي تنافي الفلسفة الماركسية , و في الاتجاهان نرى تاثيراً واضحاً من الصدر كون ان جانب الصدر زاخر بمعطيات الميدان اللاهوتي اكثر من الجانب الماركسي .

ان نجاح الصدر في تفنيد الاتجاه المادي المعادي للاهوتي ينطوي على رسمه  للحدود العلمية بشكل رائع اذ قام بتحديد النقاط الاساسية التي يعتمد عليها الصراع بين اللاهوتية و المادية , فتحديد المسار العلمي سيحدد معطياته ايضاً , و هذه المعطيات ببساطة هي المبادئ العقلية الضرورية التي سعى التيار الماركسي في انكارها و ابرزها مبدأ العلية و مبدأ عدم التناقض , فمبدأ عدم التناقض هو المنافس الاساسي لفكرة صراع الاضداد اذ اعتنى الصدر في نقده هذه الفكرة بشكل جزيل , يعلق  الصدر على ذلك:

وقد كان من نتاج التناقض الديالكتيكي أن اسقط مبدأ الهوية (أ, هي, أ) من قاموس الجدل ايضاً , و اجيز ان يكون الشيء غير نفسه , بل التناقض الديالكتيكي التام يحتم ذلك , لان كل شيء متضمن لنقيضه, و معبر عن نفيه  في لحظة ادراكه.”  (فلسفتنا , ص283)

و كعادة الصدر في كل مسألة , يقوم بتوضيحها و تفنيدها باسلوب بسيط لا يتجاوز اللفظ الصريح و المتماشي مع طبيعة تفكير و ادراك قرًاءه , و يحل الصدر مسالة التناقض المزعومة من الطرف الماركسي من خلال تمييزه فكرة الاضداد عن فكرة التناقض و اوضح ان المشكلة في الالتباس بين المفهومين و يقول :

يجب ان نفرق بوضوح امرين: أحدهما الصراع بين اضداد و نقائض خارجية  , و الاخر الصراع بين  أضداد و نقائض متجمعة في وحده معينه. فالثاني هو الذي يتنافى مع مبدأ عدم التناقض , واما الاول فلا علاقة له بالتناقض مطلقاً . . . فان كانت المادية الديالكتيكية تعني هذا اللون من الصراع بين الاضداد الخارجية , فهذا لا يتعارض مطلقاً مع مبدأ عدم التناقض.” (فلسفتنا , ص288)                                                      

و كانت هذه طريقة  عبقرية نوعاً  ما  لاخراج  الفكر الماركسي من دائرة النظرية و دحض فكرته التي لطالما كانت حملاً عليه في كل المحطات التي تطور بها هذا الفكر , لذا  فان هذا الرد  يعتبر احد الشواهد البسيطة التي استطاع الصدر من خلالها ان يوقف جماح هذه الفكرة التي اسائت للاتجاه المعرفي دوماً.

اما الركن الاخر الذي استند عليه الصدر  فكانت محاولة  اكثر تعقيداً  من الاولى , اذ انه استخدم التعبير الفلسفي  في العلوم الطبيعية لكي يفند الراي المادي و يثبت الراي الالهي و وجود الله , و حري بالصدر ان يستغل هذه الثغرة لجانبه  بشكل صارم اذ ان توظيف احد الجوانب التي يستند عليها الفكر الماركسي ضده تعتبر ضربة موجعة للفكر الماركسي. و احد هذه الشواهد على كلامنا هو ما اشار اليه الصدر في نظرية التطور و كيف تفند الراي الماركسي المادي:

وأما نظرية (داروين) عن تطور الانواع و خروج بعضها  من بعض , فهي لا تتفق –أيضاً –مع قوانين الديالكتيك , و لا يمكن ان تتخذ سنداً علمياً للطريقة الديالكتيكية في تفسير الاحداث, فان داروين و بعض المساهمين معه في بناء النظرية و تعديلها , يفسرون تطور من نوع الى نوع اخر على اساس ما يظفر به بعض افراد النوع القديم من ميزات و خصائص عن طريق صدفة ميكانيكية او اسباب خارجية محددة.” (فلسفتنا , ص328)

نختم البحث و ان طال بالقول ان احد اهم الاسباب التي جعلت فلسفة الصدر ينجم عنها ثغرات فكرية هي القلة المعلوماتية بسبب عدم توفر  لديه جميع المصادر المهمة , مما سبب له هذه السطحية المصحوبة ايضاُ باستهداف الفئة التي تتبعه ,  و الانتقائية المعرفية بسبب الغاية السياسية و الاجتماعية التي يسعى لها و ليس لاجل غاية فلسفية متكاملة مراد منها تحديث الفكر الموجود و تعديله , لانه بدون هذه الانتقائية سيجبر للميل بشكل او  باخر الى  بعض المعطيات و الفلسفية الماركسية . و  نتاج هذا  كله سيمنحنا سؤال سيكون مفتاحاً للجزء القادم و هو: هل ان الصدر استطاع ان ينتج مدرسة فلسفية توازي بشكل او  باخر  المدارس الفلسفية الاخرى؟ و ان اعتبرنا ان الصدر  استطاع  ذلك فما هي  اهم الجوانب التي تمثل هذه المدرسة الفلسفية؟

شاهد أيضاً

عيد الفطر عيد البهجة والسرور

الأضواء / شيماء لطيف يعتبر عيد الفطر السعيد جائزة صيام شهر كامل، وهو “شهر رمضان …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.