كتب: امجد حميد – العراق
منذ اللحظة التي خرج الانسان فيها من طور البصر الاعتيادي, تشكلت لديه الرؤية الاعمق واسماها البصيرة, تلك اللحظة التي لم يعد الانسان فيها عاقلاً فقط بل ما فوق العقلائية العاديه التي تجمعه مع كل الكائنات الحية. هذه اللحظة التي توّج بها علوه عن الاجمعين بعقدتين تشبثتا به حد الاعتقاد انها اللعنة واللازمة لهذا التعقل والاستبصار: العقدة الاولى هي اننا كائنات ضعيفة جداً جداً, لا نملك مخالباً ندافع فيها عن نفسنا ولا ارجلاً قوية نستطيع الفرار من خلالها ولا هيئة استثنائية حتى نهيب بها ما هو اكبر من حجمنا. اما العقدة الثانية فهي اقتناعه التام بوجوب وجود قوة حامية عظمى لهذا الجنس البشري بامكانها حمايته ان استسلم لها. لكن جهله بعظمتها وطولها وشكلها بل وحتى ((عددها)) جعلته يبحر ازماناً وازماناً لكي يجد فرصة لمعرفة هذا الكائن العظيم الذي يجب عليه حمايته مقابل تسليمه نفسه له, فلم يرى الفلاح قوة تحميه كالشمس والمطر, ولا غضب على حياته كالريح والجفاف. وعدم ادراك البصيرة المملوكه في بداية نشأتها عند البشرية جعلت الاعتقاد ايضاً بحضور هذه القوة بشكل ملموس امراً حتمياً, او على الاقل ان يكون هناك وسيطاً دنيوياً له, فرسم كل فرد في نفسه هاتين العقدتين اللتين لازمتا البشرية الى يومنا هذا بصورها المختلفة.
ومن العجائب غير القابلة للتصديق هو كيفية بقاء الانسان متمسكاً ومعتقداً, بصور مختلفة لكن بنمطية ثابتة, بهاتين العقدتين المتشبثتين به كالسلاسل الى هذا اليوم رغم كل ما وصل له من العلم, كيف اصبح الفرد كونه صينياً يعني انه حاملً لوباء كورونا, فاستنفر الجميع بالعالم منهم رغم لا عقلانية ولا بصيرة ولا منطق في ذلك؟ وكيف امست غجرية في ربوع جنوب العراق معتقدة ان بامكانها مقاومة هذا الوباء بالبخور والحرمل كونها سمعت ذلك من شيخ في قريتها ينبئهم بذلك؟ وكيف اصبحت عازفة كمان في ملعب تهدد قدسية الارض التي فيها رغم التي رسم حدودها البشر وليس الشخصية المقدسة؟ وكيف تكوّن ذلك الفرد الذي يؤمن بتفجير نفسه لكي يحصل على وجبة مباركة مع شخصية يؤمن بها كرسول ومبشر بالاله العظيم متجاوزاً حتى غريزة البقاء؟ بل السؤال الاعظم والمصيبة الاكبر هي هل ان الملحدين هم اكثر الناس وعياً, او على الاقل بعداً, عن هذه القضية بهذا المقياس, ام ان وجودهم لا يمثل دوراً لكي يلغي حقيقة تشبث الناس عاطفياً بهذه العقده؟
ان هذه المسائل لابد لها ان تختزل وتتمثل بمفهوم ما, مفهوم يمكننا دراسته وتحليله كبعد او مدى معين, ان اتضح لهذا المدى معالم محددة, واستكشاف معالمه واثاره التي التمسناها في هذه الامثلة التافهة موضوعياً. ولم اجد حقيقةً مصطلحاً مناسباً, منذ ايام بداياتي الفكرية زمن مراهقتي وحتى بلغت اليوم ربع قرن من العمر, لهذه الحوادث الناتجة من هاتين العقدتين كمصطلح “الجهل المقدس.” والذي شائت الاقدار ان اطلقه على مثل هكذا حالات بعد اوليفييه روا وكتابه “Holy Ignorance: When Religion and Culture Part Ways” “الجهل المقدس: زمن الدين بلا ثقافة”بعقد واحد وباختلافات نمطية سنتطرق لها لاحقاً.
ومن حقنا ان نعطي تعريفاً خاصاً لهذا المفهوم الحديث, متناسباً ومتسقاً مع النموذج الذي نسعى لدراسته وهو العراق. لكن رؤية وجهات النظر والاطروحات الموجودة حول هذا المفهوم ستسهل علينا تقييم ونقد وتجديد هذه المفاهيم بما يتناسب وطبيعة التجربة العراقية التاريخية في القرنين الاخيرين. فاطروحة روا في كتابه المذكور اعلاه لا تعرّف الجهل المقدس على نحو المفتعلات البسيطة التي ذكرناها كامثلة فقط, بل تتجاوز ذلك بتصوير هذا المفهوم على شكل جماهيري منظم او يسعى لان يكوّن تنظيمه الخاص كاعادة تشكيل وتهيئة لعودة دينية قديمة العهد من خلال مواجهة الثقافة السائدة:
“هل الأديان الرائجة اليوم لا تزال هي نفسها، بما في ذلك ما هو أبعد من العناوين والمسميات (مسيحية, اسلام) الأديان التي أسست الحضارات الكبرى التي نعرف؟ نلاحظ انزلاق اشكال تقليدية للديني (كثلكة، حنفية مسلمة)، تسميات أو طوائف (بروتستانتية مثل الأنغليكانية أو الميتودية) نحو اشكال من التدين المفرط أكثر أصولية وأشد كاريزماتية (إنجيلية، خمسينية، سلفية، تبليغية، صوفية جديدة). والحال أن هذه الحركات حديثة العهد نسبياً. فالسلفية ترقى إلى الوهابية التي أسست في نهاية القرن الثامن عشر والمذاهب الإنجيلية تندرج في التقاليد «الصحوات» البروتستانتية التي ظهرت في القرن الثامن عشر، وعودة نشأة الخمسينية (العنصرية) إلى بداية القرن العشرين.” (الجهل المقدس, ص25)
هكذا يرسم روا خارطة مفهومه, انه يرى الجهل المقدس كمفهوم تصاعدي للفكرة الدينية تبدأ مرحلتها الفردانية وتمر بتعدديية طائفية حتى تصل الى شكل اصولي يكون في ذاته اعلى مراحل الجهل المقدس مذ تأسيس الدين او الفكرة التبشيرية. ولان ذلك يعني صراعاُ مع التطور اللحظي التي تشهده بزوغ هذه التيارات, او كما يسميه روا “الثقافة”, يرى روا تعدد اشكال هذا الصراع هو ما يشكل كيان هذا المفهوم من ردود الفعل الاعتيادية الى الحركات التطرفية وافعالها الارهابية:
“نقع هنا مرة أخرى على الاستفهام الدائم: أليست هذه المشاكلة هي حصيلة الهيمنة الثقافية للنموذج الأمريكي الشمالي؟ وأيجازاً، عندما نرى ظهور (حلال ماكدونالد) أو (مكة كولا) فمن الرابح ؟ الشريعة أم الفاست فود؟ مكة أم أطلنتا؟” (نفس المصدر, ص55)
هذه هي اسس الجهل المقدس عند روا, انه صراع ديني سلاحه الثقافة, فان انتصر النموذج الديني الذي ييتبناه سقطت الثقافة الدخيلة وحل الدين وكون ثقافته الخاصة. انه يترجم الحداثة على انها صراع ما بين الدين, كفكرة حاملة لثقافة قديمة, وثقافة حديثة تريد ان تطغى على الدين. فيكون الجهل المقدس محاولة ربط وارجاع كل شيء الى الدين في عصره الذهبي. وسنطيل شرح ونقد فكرة روا لاحقاً لكن يكفينا ان نضع تعريفه العام حول هذه المفهوم:
“اذا كان الكاثوليك يسعون بوجه عام الى البقاء على صلة بالثقافة والى ابقائها في الحقل الديني, فان مفهوم الثقافة نفسه هو الذي يثير مشكلة لدى الانجيليين والسلفيين. فلا بد من التخلص من الثقافة المهيمنة. وتجاهل المرء لتلك الثقافة الوثنية هو وسيلة لانقاذ صفاء ايمانه. وذلك هو الجهل المقدس.” (المصدر نفسه, ص 217)
قد يكون هذا التعريف كافياً لديكم الا انكم مخطئون في ذلك, ورد خطأكم يتحقق حين نرى رؤية ايريك هوفر في كتابه “المؤمن الصادق: افكار حول طبيعة الحركات الجماهيرية” واستخدامه مفهوماً اقل حدة واكثر سخرية من الجهل المقدس وهو “المؤمن الصادق.” يرى هوفر, عكس روا, مشكلة المجتمعات الحالية من زاوية اكثر سوسيولوجية واقل سايكولوجية من روا. انه يرى فكرة الجهل المقدس, او المؤمن الصادق بتعريفه, مبنية على تصوير الماضي بشكل اكثر جمالاً وروعة من الحاضر, وجعل الهدف المطلوب هو المستقبل. اما الحاضر فهو منبوذ وغير مطلوب وليس سوى محطة لهزيمة التحضر:
“إن الوعي بالتاريخ يعطي الفرد انطباعاً بالاستمرارية. يرى المؤمن الصادق, عندما تعطيه الحركة صورة رائعة عن الماضي والمستقبل، نفسه جزء من شيء يمتد إلى ما لا نهاية في الماضي والمستقبل، جزء من الخلود. يصبح بوسعه أن يضحي بالحاضر، وبنفسه، لا لأن هذه الحياة بائسة لا تستحق الحفاظ عليه فحسب، ولكن لأن هذه الحياة لا تمثل البداية والنهاية. وفوق هذا فإن الهوس بالماضي وبالمستقبل يسلب الواقع واقعه ليصبح مجرد جزء صغير في موكب أو استعراض.” (المؤمن الصادق, ص124)
هكذا نبصر نقاط الالتقاء والافتراق بين روا وهوفر: ان الفرد يكون واقعاُ في الجهل المقدس حين يسلب نفسه الحاضر وشؤونه وتغيراته, ولا هدف اسمى له غير جعل المستقبل نسخة طبق الاصل عن الماضي الذي يمجده سواء من خلال تشكيلات ثقافية, حسب رؤية روا, او حركات جماهيرية تتفكك بعد تحقيق غايتها, حسب رؤية هوفر. ونحن نتفق تماماً مع هذا المفهوم لاتساع وتعدد الامثلة التي نعيشها اليوم, ففكرة تقليد مشية الرسول عند السنة او اللباس الفاطمي والزينبي عند الشيعة هما خير دليل على محاولة نزع الحاضر تجديداته الحضارية والتمسك بالنموذج التاريخي والمسعى له باي شكل كان.
لكن مفترق الطرق ما بين الكاتبين يبدأ من الصياغة للمفهوم, جهل مقدس ومؤمن صادق, الى الجانب والدافع اللذان يشكلان هذين المفهومين. ففكرة روا تترجم كل هذه الحالات واشباهها على انها صراع ديني اداته الهيكلية الثقافية, فهؤلاء لا يمكنهم رؤية الدين منفصل وبعيد عن تكوينهم الثقافي ويرون الحاضر الذي يعاكس هذه الرؤية بانه “حاضر وثني” فيكون اي شكل من اشكال الحداثة هو محاولة هيمنة ثقافية لاقصاء الديني. انهم غير قادرين على فصل المفهوم الديني عن الثقافي, بكل اشكال وجوانبه المطروحة, وغير قادرين على دمج ثقافة, سواء جائت من خلفية دينية اخرى او ثقافة خالية من النموذج الديني, مختلفة او غير متأصلة من الدين الذي يحملونه حتى لو خلق تناقضات ملحوظة وملموسة.
على عكس ما طرحه روا, يرى هوفر ان المؤمن الصادق هو جندي ليس الا في حركة تنبذ الحاضر, بشكله الديني والثقافي, وتريد احياء الماضي في المستقبل وليس الحاضر حتى. ان مؤمن هوفر لا يرى شيئاً اسمه دين او ثقافة, كما هو جاهل روا, بل نموذجا مجتمعياً رجعياً مهمته اعادة احيائه من جديد. ان مؤمن هوفر هو عضو حركة جماهيرية بغض النظر عن تسميتها الدينية او الفكرية او الثقافية. وهذا هو الفرق الجوهري بين مؤمن هوفر وجاهل روا.
بعد استعراض وجهات النظر السابقة حول هذا المفهوم يجب علينا ان نعطي راينا في ما نتفق معه حسب التجربة العراقية وما نختلف معه على ضوئها لنرسم على اثرها تعريفنا الخاص. فاما النقاط التي نتفق عليها هو ان فكرة الجهل المقدس مبنية على الشخوص الذين يرفضون الحاضر, بتسمياته المختلفة وبمحتوياته المتنوعة, وشكله ويأبون الرضوخ له والاعتراف به حتى وان تعايشوا معه, وان الجاهل الذي يحمل جهلاً مقدساً هو الشخص الذي يريد انهاء هذا الحاضر وتحقيق ما يؤمن به انه الاصلح للاخرين سواء بانهاء الثقافة المهيمنة او بانتصار الحركة الجماهيرية التي تتبناه ويمثلها.
اما ما نختلف فيه عن كل ما طرح هو اقتصار دائرة المفهومين المطروحين على الجانب الجماعي والتصرفات الشمولية ولا تغطي المفتعلات الفردية ولا الاطراف التي تدفع لتحقيق هذه المفاهيم. ان روا وهوفر لم يبنيا مفهوميهما الا على اثر البيئة التي عاشوا فيها والصورة النمطية الغربية التي تفسر وتترجم واقع الجزء الاخر من العالم, العالم الشرقي والاسلامي, على وفق رؤية المجتمع المسيحي هناك. ما يجعل غياب ذكر الدوافع السياسية او الاستغلال السياسي لهذا المفهوم واضحاً في شرحهم. بل عدم الالمام والتطرق لابسط الحوادث الفردية التي ذكرنا جزءاً منها في المقدمة هو ما نستدل به عليهم.
بمعنى اخر, انهم لا يرون الجهل المقدس بمنظور فردي بل بمنظور جمعي فقط. انهم يرون حياة الجهل المقدس حين يكون مبنياً على تيار او حركة جماهيرية ومن غير الممكن ان يطال فرد ما بدون ان يكون ضمن كيان مجتمعي يحمل نفس دوافعه. اضافة الى ذلك, انهم لا يرون للتناقض مكاناً في هذه الجماعات الحاملة لهذا الجهل المقدس, اي انهم لا يقدمون اي مفارقات فكرية او عقائدية مخالفة للجوهر المحمول او احد اعمدة هذا الجوهر. وبامكاننا اختصار هذه الفوارق واختلافنا معها بحادثة عراقية حديثة نسبياً وهي فتوى ابي منار العملي, كبير السلفية الجهادية في العراق, سنة 2013 بتحريم التظاهر او الاحتجاج ضد نوري المالكي كونه ولي امر العراق وحاكماً عليه ولا يجوز الخروج على الحاكم. فهذه المفارقة العجيبة التي تذهل العقول هي ما ستمثل النافذة التي سندخل بها الى تعريفنا ونتجاوز فيها تعريفا روا وهوفر, اذ كيف يمكن لكبير السلفية في العراق ان يفتي بحرمة الخروج على الحاكم العراقي ((الشيعي)) كونه حاكماً؟ من قرر ان يتقدم حكم طاعة الحاكم على تكفير الشيعة؟ وكيف اصبح على اثر هذه الفتوى اي شخص يخرج على نوري المالكي خارجياً حتى لو كان شيعياً؟
هكذا يرتسم تعريفنا من خلال ابسط الاحداث وليس اعقدها كما حاول الكاتبين فعله. ان الجهل المقدس هو كل فعل, حركة, ممارسة, ردة فعل, اعتقاد, او حتى رؤية تخلق وجودها وتبرره وفق قواعد ومبادئ ايديولوجية دينية او فكرية او عقائدية او وطنية او مجتمعية حتى وان خالفت المنطق اللحظي لها او حتى جوهرها التي تسعى له, والغاية هي تحقيق اهداف سياسية بحتة حتى وان لم تكن تحمل موضوعاً سياسياً في خطاباتها او ممارساتها المختلفة بشكل مباشر او غير مباشر.
بمعنى اخر وبشكل اكثر تبسيطاً: قبل ان يكون هناك جاهل مقدس يوجد هناك جاهل غير مقدس. فالاخير هو الشخص الجاهل بامور حياته بمختلف انتمائاتها المحمولة ويكتفي بحملها وتطبيق شروطها ومبادئها بدون الاهتمام لصحة او حقيقة الانتماءات التي ينتمي لها. اما الجاهل المقدس فهو الشخص المدرك لانتماءاته وبنودها لكنه غير قادر على تقبلّ وجود نماذج متعددة لهذا الانتماء سواء من ضمن انتماءه نفسه او خارج انتمائه حتى, فيحول تدريجياً طابع القداسة من الجوهر الذي يحمله الانتماء الى الانطباعات والممارسات بل وحتى الشخوص الذين ينادون بهذا الانتماء, ولا يخلى ذلك من هدف سياسي دوماً. اي ان الجماعات السياسية, كما حملة الانتماءات الفكرية بكل اشكالها, لا ترى فائدة من الجاهل غير المقدس, لانه لن يمارس انتمائه الا على ضوء ايمانه بالجوهر وعدم اكتراثة لحقيقته الاساسية, لكن المؤهل ان يكون جاهلاً مقدساً يكون بالوقت نفسه مؤهلاً لدراسة وامتهان الانتماء, لكن بشرط الاتباع والطاعة والايمان بالممارسة حتى لو كانت تناقض المنطق, الجوهر, او احد اعمدته.
نستنتج اذاً حقيقة الجهل المقدس واختلافه عن المفهوم المطروح من قبل من نقلنا منهم. انه حالة مجتمعية عامة وليست هوية تستوجب وجود رمزية انتمائية او حركة جماهيرية معينه. انه يكمن في ابسط الممارسات الفردية والتصرفات الاجتماعية بل وحتى الاراء الشخصية. وتعطينا الحادثة العراقية بشراء المنتجات الداعمة لاسرائيل بعد حادثة بسيطة في لعبة كرة القدم دليلاً كافياً على كلامنا, فهل هي مشكلة دينية يحاول فيها المجتمع سلخ نفسه ثقافياً وارجاع الهيمنة الدينية كما يروي روا؟ ام هي حركة جماهيرية ايمانية تحمل كل مسوغاتها لتحقيق اهدافها الايديولوجية كما يعتقد هوفر؟ ام ان التجربة العراقية استثنائية ولا تفسير لها واضح؟ بالتاكيد كل الاسئلة التي سبقت نجيبها بالنفي القاطع. ان المجتمع العراقي يعيش في سراديب الجهل المقدس, اذ ان هذه الحادثة حمل على فعلها حتى فئة اكاديمية معتبرة, سواء كان مبرر حادثة كرة القدم هو الشتم للجماهير العراقية او غيره, ما يعني ان الكل مدرك لحقيقة خطأ الحادثة لكن غياب المنطق هو ما يجعل العاطفة الشعبية حطب الجهل المقدس. لهذا السبب لا نستغرب او نعاتب غوستاف لوبون حين يقسوا في كتابه “سيكولوجية الجماهير” في وصفه للجماهير حين يقول:
“ولكن الجمهور ليس فقط انفعالياً ومتغيراً. وانما هو ايضاً كالإنسان الهمجي لا يعبأ بأي عقبة تقف بين رغبته وبين تحقيق هذه الرغبة. نقول ذلك وخصوصاً أن عدده الكبير يشعره بامتلاك قوة لا تقاوم . فمفهوم المستحيل لا معنى له للفرد المنخرط في الجمهور.” (سيكولوجية الجماهير, ص65) .
يعد فهمنا وتعريفنا للجهل المقدس بوابة مثالية لمعرفة الاثار والادوات والعوامل التي تساعد على تشكيل هذا المفهوم. ولان كل ما سبق يستحيل تناوله ونقله لكم بالكامل في هذا المقال البسيط لتعقيده وتشابكه, لذا سنؤجل التفاصيل العظمى لكتاب مستقبلي محتمل له. اما هنا فسنتناول اهم الاشكال والرموز التي تمثل مفتاحاً لهذا المفهوم المجتمعي ودليلاً عليه, بل ان محاولة حل مشكلته والخلاص منه قد يحقق لنا دون مبالغة الخلاص من الجهل المقدس في مجتمعنا العراقي والعربي لاحقاً. هذا المفتاح لهذا المفهوم نستطيع ان نطلق عليه ((المحرك السائد)).
ان فكرة المحرك السائد ببساطة تكمن في ابسط الدوافع والمطالب والاثار والغايات المجتمعية والفردية لاي فعل يقع تحت اطار الجهل المقدس. انه القوة الجوهرية التي لا يستقيم الجهل المقدس بدون استقامته, اي ان لا ممارسة فردية او مجتمعية بدون ان يكون لها محرك يمثل الدافع الاساسي والعام لها لتحقيقها, فيسود على طبائع الفرد وعقله وعلى ممارسات المجتمع وتركيبته. ونجد ملامح هذا المفهوم واضحة لدى لوبون لكن بصورة مجتمعية فقط ومن ناحية دينية خاصة:
“وأياً تكن حيادية الجمهور، فانه يجد نفسه في غالب الأحيان في حالة من الترقب المهيأة لتلقي اي اقتراح. واول اقتراح يظهر يفرض نفسه مباشرة عن طريق العدوى والانتشار لدى كل الاذهان، ثم يحدد الاتجاه الذي ينبغي اتباعه حالاً . ولدى الأشخاص المستثارين تميل الفكرة الثابتة الى ان تتحول إلى فعل . وسواء أكان هذا المشهد هو حرق قصر أم القيام بعمل خيري جليل فان الجمهور ينخرط من أجله مباشرة وبنفس السهولة. كل شيء يعتمد على طبيعة المحرض، وليس على العلاقات الكائنة بين العمل المحرض وبين حجم السبب الذي قد يعاكس تحقيقه كما هو عليه الحال مع الفرد المعزول.” (نفس المصدر, ص66)
هكذا تحقق الجهل المقدس: ليس بنشر الفكرة وجوهرها بل بتدعيم وترسيخ محركها اللحظي اياً كان شكله او كيانه, فتدفع بذلك الفرد وغيره الى تعدد الوان واطياف دعمهم له. وبالتالي تشكيل طائفة جماهيرية وفردية تكون مستعدة للخضوع لهذا المحرك كونه محركاً لا كونه يطالب او ينادي بجوهر الفكرة الانتمائية المعنية. ان كلام صباح شبر, الذي اخذ حيزاً من النقاش في الشارع العراقي بشكل عام والشيعي بشكل خاص, يبين النواة الاساسية لفكرة الجهل المقدس وتطبيقه بشكل واضح, فليس من السهل القول: “اذا اردت معرفة الشخص كونه شيعياً لا تساله عن اي شيء يخص المذهب, بل اساله عن رايه بالسيد الصدر والسيستاني والخميني…الخ. فان تكلم ضدهم فهو ليس شيعياً.” (بتصرف). فهل اعتبار هذه الشخصيات مسارات مختصرة للتوحيد والنبوة والامامة وكل شيء بالنسبة للشيعي؟ وهل عدم الاتفاق معهم في نقطة كافي حقاً لخروج الشخص من المذهب الشيعي؟ هنا تتبين فكرة الجهل المقدس بابسط صورها, بل تصنع هذا الشعور المرعب لقوة المحرك السائد ان تم تطويره ومشاركته وتقويته, فهو يبين اذاً العامل الاساسي والحيوي لتكوين اي مجموعة ارهابية او جهادية او تيار فكري متطرف. ويختصر لنا عبدالله بن ثابت, الكاتب والشاعر السعودي, في روايته “الارهابي 20” الدليل على كلامنا, فهذه الرواية ليست الا رحلته العسيرة في التيارات التكفيرية والصحوة وخروجه منها:
“يقولون في عسيرنا (إن المحشد يشرب السم ويقتل أخاه) يعنون أن المحرض الذي امتلأ صدره بكلام أحد ما فإنه من الممكن أن يتجرع السم، ويمكن أن يقتل أخاه!
ولأنني كنت ممتلئاً فلم يبق بي من خلية لم يسكنها تعلقي بهذه الحياة، بإيمانياتها ونسكها وحركيتها، وحتى عدوانيتها تجاه كل مفردات أية حياة خارج الإطار الذي أعيش فيه، بل إن فشلي الدراسي المتتابع لم يكن ليوقظني أو ليكون عندي موضع اهتمام أو مبالاة، بل إني كنت أحدث نفسي أن تعثري بالدراسة يعني بقائي في المدرسة فترة أطول، وأكون إذن داخل النشاط والدعوة، اللذين لا شيء أحب إلي منهما، ثم ما هي قيمة الدراسة والدنيا كلها في قناعتي لا تزن جناح بعوضة ولا تساويها، والحقيقة كل الحقيقة عندي حينئذ أن أنذر محياي ومماتي لهذا الطريق!” (الارهابي 20, ص 106)
لهذه النقطة نكون قد استعرضنا ما نتفق عليه مع من تناولناهم ونظريتهم بالجهل المقدس وبينا مشاكلتنا معهم بابسط صورة ممكنة. نحن اتفقنا مع لوبون بشان المحرك السائد لكننا لا نرى العاطفة الدينية هي الاساس والمكون الاساسي لها. ان العاطفة, بشكلها الديني وغير الديني, اليوم هي ما تترجم الديني وليس الديني هو ما يترجم العاطفة. ان الشيخ الذي جعل الهوية الشيعية مبنية على الراي الشخصي تجاه السيستاني او الاخرين لم يعتمد على النموذج الديني بل العاطفي, وهو ما يفند كلام لوبون الذي لم يعد مطبقاً في عصرنا الحالي. فكون المرء والمجتمع يحتاج الى دين فكرة مغلوطة من قبل لوبون كونه يرى العاطفة والمحرك بل وحتى التحرك الجماهيري اساس ديني جوهرياً, بل الاصح ان نقول ان المجتمع يحتاج الى فكرة وانتماء اما ان يحركها محرك سائد, يشكل بدوره جهلاً مقدساً, او يقارب في حياته جوهر الفكرة بذاتها.
بالكلام نفسه, نواجه تعليقات روا وشروحه ونشكل عليها. فهو يحمل نفس رؤية لوبون في المسالة الدينية ويفسر التاريخ على وفقها ويضيف عليها الزامية التشكيل الثقافي المطابق بصورة مثالية للدين المحمول في المجتمع:
“عندئذ تتوفر للدين ثلاث مواقف ممكنة: أن يعقل الثقافة بوصفها دُنيوية, او علمانية, او وثنية. دنيوية, هي الثقافة غير المبالية بالديني . . . علمانية, هي الثقافة غير الدينية ولكنها شرعية . . . وثنية, فالثقافة يمكن ان تستند الى علامة تصنيف دينية, لكنها متعارضة مع الدين المهيمن . . . هذا زمن الالهة المزيفة (الانسان, والثورة, والعرق, والدولة).” (الجهل المقدس, ص58-59)
ونحن لا نتفق مع ذلك ابداً, فكون المجتمعات تتجه لتثقيف الدين, اي جعله ملتصقاً ومؤسساً فاعلاً واساسياً للثقافة, لا يعني ان الثقافة لا تستقم الا بوجود الديني حتى وان كان ذلك من قديم الازمان. بل لا يعني بالموازاة لذلك اشتراط الديني ان يكون مشاركاً اساسياً للثقافة. بل ان ما يدفعها لفعل ذلك هو المحرك السائد الذي ولد الجهل المقدس محتوياً ذلك الاعتقاد لاجل غايات سياسية. فاهل المكسيك القدامى الذين كانوا يقدمون الاضاحي يومياً, بالغين واطفال, لاجل بقاء العالم هم نفسهم الذين امنوا, سنة 1521, ان الاسبان القادمين لاحتلالهم هم الهتهم, وان هرنان كورتيز, القائد العام للقوات الاسبانية, هو تجسيد للاله “كواتزيكواتل” اله الحكمة. ان تقبلهم للمستعمر لم ياتي من سذاجتهم بل من تسليم امرهم الى كهنتهم, المحرك السائد, فامنوا بدورهم بما فسروه لهم من هذا الاستعمار. ويكفي تعليق تميم البرغوثي بخصوص هذه القصة رداً على رؤية روا التقليدية في الجهل المقدس:
“لم يكن أهل المكسيك القدامى غريبي الأطوار، ولكن السياسة هي التي جعلت هؤلاء ساكتين وجعلت القوة لغيرهم من الكهنة والملوك. إن تقديم الأضاحي كان وسيلة من وسائل السيطرة والحكم، لم يكن الهدف من تقديم الأضاحي تهدئة الآلهة بل كان الهدف تخويف العامة. لقد اخترع القوم الآلهة وقصص الآلهة ليعطوا شرعية لنظام سياسي يمارس سلطته وقدرته على القتل الجماعي علناً وعلى مرأى من الجميع ومسمع. ولتقديم الأضاحي وظيفة أخرى فهو دافع مستمر للحرب ولتقديس ذلك الجزء من المجتمع الذي يحتكر حمل السلاح، أعني الدولة والمؤسسة العسكرية.” (مع تميم-الملوك والكهنة والالهة, قناة AJ+ ساحة)
هكذا نفهم السبب الاساسي وراء الهجمة العنيفة تجاه عازفة الكمان جويل سعادة سنة 2019 حين عزفت في ملعب كربلاء, فالقدسية بالنسبة للجاهل المقدس, او المؤمن الصادق كما عند هوفر, هي محكومة جغرافياً ايضاُ كما هي محكومة تاريخياً, ان ملعب كربلاء لو كان يقع على بعد متر واحد من الحدود المرسومة لهذه المحافظة فلن يحصل له مثل هذه الهجمة! بل ان المحركين لمثل هذه الافكار لو كانوا ساكتين لما راينا لذلك من اهتمام, لان الذين اعترضوا على عزف كمان يمثل الفن والرقي خرجوا للرقص والغناء في الساحات لاجل مرشحيهم الانتخابيين بدون ان يهز ذلك قدسية كربلاء! ان الجهل المقدس لا يحكمه التاريخ فقط بل حتى الجغرافية وكل شيء, انه ليس لوناً واحداً بل يمتلك طيفاً من التنوع في الافراد والمجتمع الحامل لهذا الجهل المقدس. هذا ما يشير له هوفر ونتفق على اساسه, الداعم لفكرة المحرك السائد, ونختلف في تفسيره حين ياخذ مسالة اسرائيل كاحد الامثلة على التيارات الشعبية والمؤمن الصادق:
“وعلى نحو مشابه، في حالة اليهود، لم يكن بالامكان توقع سلوكهم في فلسطين من سلوكهم في أوروبا. كان ممثلوا بريطانيا المستعمرة في فلسطين يتصرفون على نحو بدا منطقيا، إلا أنه كان يفتقر الى الحكمة. اعتقدوا أنه ما دام هتلر قد تمكن من إبادة ستة ملايين يهودي دون مقاومة، فانه سيكون بوسعهم التعامل بسهولة مع 600.000 يهودي في فلسطين. إلا أنهم سرعان ما اكتشفوا أن اليهود في فلسطين، حتى أولئك الذين قدموا حديثًا من أوروبا، كانوا أعداءً لا يستهان بهم: عنيدين ومغامرين وواسعي الحيلة. في اوروبا واجه اليهودي اعداءه بمفرده، شخصاً معزولا، ذرة من الحياة تطفو على محيط من العدم. أما في فلسطين فلم يعد اليهودي يعدّ نفسه مجرد ذرّة بشرية، بل عضوًا في جنس عريق، له ماض موغل في القدم، ومستقبل مليء بالانجاز الخارق.” (المؤمن الصادق, ص 118)
وقد اصاب هوفر في فكرته لكنه اخطأ في تفسيره, ونفس الشرح الذي اقمناه على روا يقوم على هوفر ايضاً. فان هذا الاندفاع اليهودي لم يستقم على ارضية فكرية حقيقية بل على الجهل المقدس, بل انه يسقط الرؤية التثاقفية التي نادى بها روا اذ لم يكن اليهودي الاوروبي يرى نفسه يهودياً بالدرجة الاولى بل مواطناً اوروبياً حسب الارض التي ينتمي اليها. لكن المسوغات السياسية التي اختلفت قد اختلف معها النظرة الهوياتية وجعلت الشخص اليهودي مواطناً يهودياً في دولة يهودية, متجاوزه حتى فكرة الدولة الاسلامية التي لا تمحي من نفسها الطابع الجغرافي واساميه بل وحتى الثقافة التي تحملها ارض معينه. انه المحرك السائد الذي يطغى على مجموعة ما ويعرفها, ففكرة اسرائيل لم تتوجه صوب النازية بل صوب فلسطين كما توجهت الافكار التكفيرية نحو العراق وسوريا وليس فلسطين ايضاً. وهكذا نتاكد ان اعلى مراحل الجهل المقدس هو التكوين الارهابي. نعم ان داعش والقاعدة واسرائيل وكل منظمة تقتل باسم فكرتها هي مؤسسات تحمل جهلاً مقدساً عند افرادها ومتبعيها ليس الا!
هكذا تكونون مدركين, ومرعوبين, لهذا النموذج الفكري الكاسح للمجتمع العراقي وما هي نواته وما هي المصادر التي يتغذى عليها ليحقق وجوده واستمراريته. لكن هل هذا يعني ان لا حل لنا نهائياً مع ذلك؟ هل الالحاد او الدولة الملحدة ستبعدنا عن كل هذه الحوادث ان تحققت يوماً؟ هل سنستبعد مواجهة عنيفة من قبل مجتمع ملحد يوماً ما لمقهى اعتيادي كون اسمه على اسم شخصية دينية كما واجه بعض المتطرفين مقهى ام كلثوم وغيروا اسمه؟ حقيقةً لن نستطيع اجابة هذه الاسئلة مالم نعرف هل هناك حل او لا للجهل المقدس. وسنختصر الحل معكم حين نحل هذه الازمة الفكرية وهو امكانية او احتمالية البديل الالحادي كحل للجهل المقدس.
والواقع ان كل من يعتقد ان الالحاد, سواء كان فردياً او مجتمعياً, لا يملك جهلاً مقدساً او يحمل ثغرات لحمله فهو واهم جداً. وتفيدنا التجربة الاوروبية والصينية ايضاً بذلك. واكبر دليل على ذلك هو الاسلاموفوبيا والمواجهات التي تعاني منها النساء المسلمات في ارتداء الحجاب, خصوصاً في فرنسا والمانيا, في ضل الخطابات والقرارات المتكررة بحظر الحجاب والنقاب. ومن الجيد اننا نرى هذه الالتفاتة من روا بخصوص هذا الموضوع, كون فكرة الجاهل المقدس تشكل تركيبة عامة تطأ عقول حتى من لا عقيدة او فكرة او قداسة لديهم في الحياة, اعني الملحدين, وتقوضهم هذه التركيبة وتجعلهم على نفس المستوى مع الجاهل المقدس العراقي الذي راى ان الامراة التي تشارك في سباق الماراثون في البصرة تسيء للمجتمع البصري والدين والمذاهب الاسلامية والوطن :
“يجب إذا التمييز بين هيمنة (حقيقية)، واستلاب، ومشاكلة، وتحويل. يفترض الاستلاب ان الشخص المعني ليس حرًا ويتقلد هوية مفروضة من الخارج، الذي يرمي في الواقع إلى ضمان الخضوع. وهذا مدار الجدل الكبير بصدد الحجاب في فرنسا: كيف يمكن لأمرأة حرة أن تختار طوعا علامة خضوع؟ معلوم أن تلاميذ المدارس الذين اثاروا مختلف القضايا المتعلقة بالحجاب لم يفعلوا ذلك تحت ضغط أهاليهم أو أخوتهم. والحال أن هذا الضغط المفترض هو الذي حوِّل إلى مبدأ عام للتفسير، الأمر الذي يتيح تمرير خيار “حرّ” من أجل الاستلاب, والذي هو، فضلاً عن ذلك، استلاب «ثقافي».” (الجهل المقدس, ص238)
يتضح اذاً ان الالحاد, او ترك التوجهات الدينية, ليس الحل النهائي لمسألة الجهل المقدس لانه من الممكن ان يحمله. ان عبارة الملحد المتعصب قابلة للطرح والاستخدام والتحقيق في العالم وهي متحققه فعلاً في اوروبا. هذا اللغز الذي حله هوفر في كتابه الذي نتناوله في المقال يبرز دليلاً على ان الصراع الجماهيري لا يمتلك بعداً عقائدياً بقدر ما هو سيكولوجي من الدرجة الاساس:
“ان نقيض المتدين المتعصب ليس الملحد المتعصب، ولكن المتشكك الذي لا يشكل موقفًا محددًا من الدين، الملحد متدين من نوع ما ؛ لأنه يعتنق الإلحاد كما يعتنق المرء ديناً جديداً. والملحد يتبع مبدأه بحماسة وقوة. يقول رينان: (عندما يكف العالم عن الإيمان بالله، فإن الملحدين سيكونون اشد الناس تعاسة). ومن المنطلق نفسه، نجد أن نقيض الوطني المتطرف ليس الخائن، بل المواطن المنطقي المعتدل الذي يحب الحاضر، ولا يتطلع إلى الشهادة والمغامرات البطولية.” (المؤمن الصادق, ص 139)
نفهم من ذلك اذاً ان الالحاد مشمول في هذه الدائرة, فلو كان العراق بلداً ملحداً لن يعني ذلك عدم تكرار جميع الحالات التي ذكرناها كجهل مقدس بصورة مناسبة للفكر الالحادي. ويكفي اننا نوصلكم الى هذه المرحلة من التشكك بعدم وجود حل ونريح فضولكم وحماسكم بايجاده. فحقيقة الامر و السر في تفكيك المحرك السائد والجهل المقدس هو تكريس الوعي الجمعي والفردي لدى الناس. ان اقرب تسمية بديلة للجاهل المقدس في اولى مراحل الحداثة كانت الرجعية. وان الانسان الرجعي يتسم بجميع صفات الجهل المقدس باستثناء مرونته لتقبل الحداثة بصورة ملتوية, اي جاهل مقدس من اعلى المستويات. وان هذه الرجعية ليست مبنية على الماضي كما يعتقد هوفر او على التشكيل الثقافي الاصولي كما يعتقد روا بل يعتمد على رسم ورؤوية النماذج الحضارية الحالية كتهديد للفكرة وايمان الافراد فيها. ونرى ذلك جلياً في احد الامثلة التي القاها لنا روا والخاص بالفتاة الصينية:
“وفي الختام هاكم نادرة أخيرة صبايا صينيات مُتبنيات من قبل عائلات يهودية أمريكية تلقين تربية دينية كيهوديات وثقافية كصينيات: إحداهن (أوليفيا ر.)، فتاة من ماساتشوستس احتفلت بإدراكها سن البلوغ في الخريف الماضي، في وقت تصادف فيه عيد الحصاد اليهودي مع عيد قمر الخريف الصيني. تقول إنها لا ترى تنافراً بين وجهي هويتها : (اليهودية دين، والصينية ميراثي وثقافتي بصورة ما، وأنا أقدرهما بطريقة مختلفة، تقول، ولا أجدهما على تنازع). والحال أن لا شيء متماسكاً في هذا الوصف لمناسبة سعيدة، لا في مفردات الدين ولا في عبارات الثقافة. ما الذي تلقته هذه الفتاة كـ «ثقافة صينية» ما خلا روزنامة؟ وأية ثقافة مزدوجة أبعد من أرغفة كاشر ؟ كيف التوفيق بين بنوة وتبن في اليهودية، وباروبات ميتزفاه وسنة جديدة صينية وعيد حصاد يهودي … ولكن على هذا النحو تماماً تجري الأمور من الآن فصاعداً.” (الجهل المقدس, ص 283-284)
نتأكد الان, بصرف النظر عن تعليق روا وفحواه التشاؤمي مضموناً, ان اي فرد يستطيع تجاوز التقييد التاريخي لانتمائه الفكري حتى وان امتلك اكثر من واحد ويحمل فيهن تضارباً ايضاً. فهذه الفتاة لم تواجه صراع انتمائين كما بين روا بل ثلاثة في الواقع: الهوية الدينية اليهودية, النموذج الحضاري الامريكي, والاصالة الجينية الصينية. بالرغم من ذلك, لم تحقق هذه الفتاة اي نوع من الرجعية, لان تحقيق ذلك يعني ميلها, او حتى تخليها, عن باقي الانتمائات ونكرانها والوصول حتى لمواجهتها كما يملي على هذه الفكرة الجهل المقدس. اذاً فالنموذج الرجعي السابق والحاضر لنموذج الجاهل المقدس هو نموذج عارف معلوماتياً لكنه ضعيف ايمانياً بقدرة استيعاب التغيير والاخلاقيات الانتمائية معاً. ان ضعفاء الايمان وجبات سهلة الهضم للحداثة, وتكلفة تكريس الجوهر وتحمل عناء بناء ضمان فكري في عقولهم لعدم انجرارهم نحو النموذج الحضاري المتجدد بسرعة هائلة شبه مستحيل, وهو ما يهدد بدوره الانظمة السياسية القائمة مهما كانت الادبيات والعناوين التي تنادي بها. فيكون صنع محرك سائد وسيلة اسهل واقل تكلفة وابسط نظراً للجهات السياسية والتيارات الفكرية لجر الافراد والمجتمع ليكونوا اعداء شرسين لاي صورة فنية او نموذج حضاري بامكانهم استيعابه. وهذ ما يجعلنا نصل في نهاية بحثنا الى المقارنة التي عملها هوفر حول الفرق بين المحافظ, والليبرالي, والمتشكك, والثوري, والرجعي, من ناحية الموقف من الحاضر والماضي من جهة, والفرق بين الرجعي والثوري من جهة اخرى:
“اما الثوري والرجعي فيكرهان الحاضر ويعدانه انحرافا وتشويها. والاثنان مستعدان للهجوم، بقسوة وطيش على الحاضر، وكلاهما منفتح على فكرة التضحية بالنفس، أين يختلفان، إذا؟ الخلاف الأساسي بينهما ينحصر في النظرة إلى الطبيعة البشرية. يؤمن الثوري إيمانا مطلقًا بقابلية الطبيعة البشرية للتطور إلى الأفضل. انه يعتقد أن بوسعه عن طريق تغيير بيئة الإنسان واقامة اليات تعيد صياغته أن ينشئ مجتمعًا جديدًا كل الجدة وغير مسبوق في التاريخ. أما الرجعي فلا يعتقد أن في طبيعة الإنسان مساحة كبيرة يمكن تطويرها إلى الأفضل. ومن هنا يرى أنه إذا أريد لمجتمع مستقر وصحي أن يقوم، فلا بد أن يتبع نماذج الماضي الناجحة. إنه يرى في المستقبل احياءََعظيمًا لما كان ولا يعده فرصة لابتداع ما لم يكن.” (المؤمن الصادق, ص 126)
هنا نصل الى نهاية فهمنا لمشكلة المجتمع العراقي في الالفية الثالثة, كنموذج نستطيع ان نقارنه ونقاربه على باقي المجتمعات والبلدان في العالم. انه الجهل المقدس الطاغي عليه ويتغذى على ايامه وروتين حياته وكل تصرفاته. انه لا يستطيع ان يرى نموذجاً افضل من النماذج السابقة ولا يتخيل نفسه قادراً على ابداع شيء جديد وتجاوز الماضي او صنع نموذج حضاري منفصل ومتوافق بنفس الوقت مع انتمائاته الدينية والعرقية. هذا ما يجعلنا نرى النهاية الغامضة لدى اوليفييه روا في كتابه الذي تناولناه, فقد عرفنا كل شيء عن الجهل المقدس لكننا لم نعرف كيف نتخلص منه او نحرر الجاهل المقدس من جهله.
في الختام, نقول: ان الجهل المقدس وتجلياته الخاضعة للمحرك السائد الفردي والمجتمعي لديه هو ما يدفع الفرد والمجتمع العراقي لخلق هذه التناقضات التي يعرفها كل عراقي بسيط قد قرأ هذا المقال ووصل الى هذه النهاية. نعم انه العراقي نفسه الذي رفض تسمية مقهى اعتيادي على اسم ام كلثوم قد خرج راقصاً محتفلاً مغنياً لفوز محافظ محافظته المقدسة! انه العراقي نفسه الذي رفض عزف جويل سعادة في ملعب كرة القدم ويخرج بعد فوز منتخبه بالاحتفال والابتهاج المفرط وان خسر فبالشتائم والسباب! بل ان من تبع كلام الطالقاني حين صادفت لعبة المنتخب العراقي مع ذكرى جرح الامام علي لا يعرف اصلاً ان هذا النموذج الاسلاموي الشيعي يمتلك صورة بجانب احد اعمدة الفكر الليبرالي الالحادي التحرري (جان جاك روسو) في باريس الكافرة الملحدة, وكأن ذلك لا يجعله متناقضاً مع تصريحه “الليبرالية كفر والحاد.” انه العراقي نفسه الذي رفض ان تكون هناك امراة حرة بارادتها ان تشارك في سباق ماراثوني لكنه يصرف مئات والاف الدولارات ليرى امراة ترقص في اربيل او اذربيجان او ايران او لبنان او اي مكان في العالم! هكذا نفهم ان حل المعضلة العراقية بالخلاص من الجهل المقدس وتفكيك المحرك السائد, فيكون الفرد العراقي فرداً حراً يرى بعين الوعي المجتمعي والحاضر والتطوير الثقافي, ولا يتقيد بالنماذج الدينية او العرقية المؤطرة والرجعية.
وقد يبدو ذلك بعيداً جداً, لكنه سيتحقق في النهاية حين يدرك افراد المجتمع العراقي ان لا قدسية تعلو فوق قدسية حرية الانسان في قراراته وحياته بشرط ان لا يتعدى على حرية وقرارات الاخرين او تؤدي حريته الى اذية فرد او مجتمع. ان ما نستطيع ان نختزله في كل الامثلة والشرح والدلائل التي تناولناها هو حقيقة ان الانسان لا يستطيع ان يعيش دون ان يمتلك شيئاً او اشياء يقدسها, وهذا ليس ضمن قائمة المرفوضات او الاشياء التي نعترض عليها. ان الشيء الذي نرفضه ونسعى اليه في هذا البحث تحديداً هو تحويل هذا التقديس الى اداة تجهيل او توظيفه لغايات قمعية فيتحول بدوره من ان يكون مقدساً الى جعل ادواته واغراضه ومناحيه هي المقدسة, فيتحقق بذلك ما نسميه بالجهل المقدس.