الرئيسية / آراء حرة / غيرة الطفولة من حب الوالدين: ما لا يدركه الكبار عن مشاعر الصغار

غيرة الطفولة من حب الوالدين: ما لا يدركه الكبار عن مشاعر الصغار

الأضواء / د. نزار گزالي، اربيل ـ دكتوراه في علم النفس

في أعين الأطفال، لا وجود للحب كما نعرفه نحن الكبار. ما يفهمه الطفل من العلاقة بينه وبين والديه ليس إلا إحساسًا قويًا بالانتماء، بالأمان، وبالارتباط غير المشروط. لهذا، حين يرى الطفل أحد والديه يُظهر حبًا للآخر، فإن الأمر لا يبدو له طبيعيًا. هو لا يدرك معنى العلاقة الزوجية، ولا يعرف أن الحب يمكن أن يتسع ليشمل أكثر من شخص، فيراه وكأنه تهديد مباشر لمكانته العاطفية.

تفسير هذا السلوك لا يعود إلى خلل في شخصية الطفل، بل إلى حقيقة بسيطة: الطفل لم يتعلم بعد كيف يفرّق بين أنواع الحب. ما زال يرى نفسه مركز الكون، ويُسقط مشاعره على كل من حوله. فإذا كانت أمه هي مصدر الحنان والرعاية، وأباه مصدر الحماية والأمان، فإن أي مشهد يظهر فيه أحدهما يُعطي حبًا للآخر، يُشعل بداخله قلقًا خفيًا: “هل سأنزاح من هذا الموقع؟ هل سيقل حبهم لي؟”. إنها ليست غيرة واعية، بل دفاع فطري عن مصدر الأمان.

إن الكثير من الأهل يتفاجأون حين يرون طفلهم يعبّر عن انزعاجه من مشهد بسيط كعناق بين والديه، أو قبلة عابرة. وقد يُخطئون حين يتعاملون مع هذه الغيرة كتصرف غير لائق يجب كبحه. لكن الحقيقة أن الطفل، في هذه السن المبكرة، لم يطوّر بعد وعيه بذاته أو بغرائزه، ولم يكتشف وحدته أو حاجاته النفسية الخاصة. وبالتالي، فهو لا يرى الحب كعلاقة ناضجة بين شخصين، بل كملكية فردية يخاف أن يفقدها.

من الناحية النفسية، هذا التوتر العاطفي الذي يظهر لدى بعض الأطفال أمام تعبيرات الحب بين الأبوين، له جذور في ما يُعرف بعقدة أوديب (للذكور) أو عقدة إلكترا (للإناث)، كما شرحها التحليل النفسي الكلاسيكي. الطفل يرى في الوالد من الجنس نفسه خصمًا أو منافسًا على عاطفة الطرف الآخر. ورغم أن هذه المرحلة تنتهي تدريجيًا مع النضج، إلا أن آثارها تتطلب من الأهل وعيًا عاطفيًا وطريقة تواصل تُطمئن الطفل باستمرار بأنه محبوب، وأن حبهم لبعضهم لا يُنقص من محبته.

لا يعني ذلك أن يُخفي الوالدان مشاعرهما كليًا، أو أن يتحولا إلى غرباء أمام الطفل. بل المطلوب هو الاعتدال. الطفل بحاجة لرؤية علاقة صحية بين والديه، تقوم على الاحترام والمودة والتفاهم، لكنها لا تفرط في الخصوصية أمامه. فالمشاهد الحميمية المفرطة تربك الطفل لأنها تفوق إدراكه، وتتركه يتساءل عن مكانه بينهما. من الأفضل أن يكون حضورهما أمامه أقرب إلى “صديقين قريبين”، دون نفي الحب، بل بإظهاره بشكل دافئ وآمن.

علاقة الطفل بأمه وأبيه ليست علاقة منافسة كما قد يتخيلها في سنواته الأولى، بل علاقة تكامل يحتاج إلى تعلّمها تدريجيًا. ومع مرور الوقت، ومع تطور وعيه، يبدأ في فهم أن هناك أنواعًا متعددة من الحب، وأنه ليس مضطرًا لأن يكون وحيدًا في قلب والدته، أو أن يحتكر عاطفة والده. حينها، تصبح رؤية الحب بين والديه مصدر أمان نفسي، لا تهديدًا.

وإن سألنا: هل يمكن أن تؤدي هذه الغيرة إلى صراع أو عنف بين الإخوة مثلًا؟ فالإجابة تبقى في الغالب لا، طالما أن الأهل يعاملون أبناءهم بعدالة، ويُشعرون كل طفل بقيمته ومكانته الخاصة. العنف لا ينشأ من الحب، بل من شعور الطفل بأنه مُهمل أو غير مرئي. وإذا وُجدت بيئة تُشعر كل طفل بأنه محبوب ومُقدَّر، فإن الغيرة تأخذ مسارها الطبيعي وتزول تدريجيًا.

إن أجمل ما يمكن أن يقدمه الوالدان لطفلهما هو أن يربياه في ظل علاقة عاطفية متوازنة. لا يخفيان مشاعرهما، ولا يستعرضانها. لا ينكران عواطف الطفل، ولا يستسلمان لها. بل يُعلّمونه، تدريجيًا، أن الحب لا يعني الإقصاء، وأن في قلب الأم والأب متسعًا للجميع. هكذا فقط ينشأ الطفل سليمًا، ويدخل عالم العلاقات في كبره، بقدرة حقيقية على الحب دون خوف، والانتماء دون صراع. في الختام
رجاءً، اهتمّوا بالصحة النفسية لأطفالكم. فالكثير من عقد الطفولة قد تستمر لعقود، وتنعكس على شخصية الفرد وسلوكياته في مراحل لاحقة من حياته. لا تترددوا في استشارة المختصين في علم النفس ودعم الصحة النفسية؛ فالدعم المهني من أصحاب الاختصاص لا يُقدَّر بثمن، إذ يوفر بيئة آمنة للطفل والعائلة، ويُعزّز جودة الحياة على المدى البعيد.

تذكّروا دومًا أن العلاج النفسي لا يقل أهمية عن العلاج الجسدي، وإهماله قد يؤدي إلى نتائج كارثية. الوقاية والرعاية النفسية المبكرة، هي الخطوة الأولى نحو مجتمع أكثر صحة واتزانًا.

شاهد أيضاً

السيادة ليست موضوعاً للتفاوض وربة وبوبيان عراقيتان وخور عبد الله ليس للبيع

كتب : د. محمد عبد الستار البغدادي – خبير اقتصادي ومالي في قاموسِ الدولِ ذاتِ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.