الرئيسية / آراء حرة / راهبة الصوفية .. البصرية ..  رابعة العدوية

راهبة الصوفية .. البصرية ..  رابعة العدوية

كتب :  عادل أحمد الجبوري ـ العراق – البصرة

أحبك حبين ، حب الهوى .. وحبا لأنك أهلُ لذاك فأما الذي هو حب الهوى .. فشخلني بذكرك عمن سواهما  وأما الذي.أنت أهل له .. فكشفك للحجب حتى  أراكا..
رابعة العدوية ..
حين نذكر رابعة العدوية فإن صورة الزاهدة العبادة المتصوفة الناسكة تتجسد أمام ناظرينا بسرعة خاطفة : صورة المرأة الهادئة الوادعة ألتي تتجمع أنوار الهداية على وجنتيها ، المرأة الأشهر في تأريخ التصوف الإسلامي كله منذ نشأته و إلى يومنا هذا لم تكن حالة عابرة خاطفة بقدر ما يأتي اسمها على الألسن و تتخيله العقول ، كما أنها للمفارقة لا تزال لغزا محيرا لعلنا نجلي عنه بعض الغبار وسنوات النسيان و الغموض للتذكير بها و بفلسفتها الصوفية الفريدة !
يرى أحد المستشرقين .. : ان الصوفية الأولين و منهم رابعة ، هؤلاء الذين لبسوا الصوف وعرفوا به ، كانوا في الحقيقه زهادا وادعين أكثر منهم متصوفة ، فادراكهم المستولي عليهم للخطيئة كانت تصحبه الرهبه من يوم القيامة وعذاب النار ، تلك الرهبة التي ليس في طوقنا ان نتحققها ، و التي صورت في القرآن تصويرا حيا دفعتهم إلى أن يجدوا في الهرب من الدنيا مخلصا لهم ؛ ثم إن القرآن ينذرهم من جهة أخرى – أن النجاة تتوقف أساسا على مشيئة الله الخفية ألتي تهدي الصالحين سواء السبيل ، وتضل الظالمين عن القصد القويم ، وأن حظهم قد رقم في اللوح الخالد ، لوح عناية الله ، لا يستطيع شيئ له تبديلا ، فيجب أن يعلموا أنه إذا قدر لهم ان ينجيهم صومهم و صلاتهم وما يأتون من الأعمال الصالحة فهم لا بد ناجون . واعتقاد كهذا لا بد ان ينتهي إلى التأمل في الله ، و الخضوع المطلق للمشيئة الالهية ، و تلك ميزة من مزايا التصوف في أقدم صوره .
تأتي رابعة العدوية ( البصرية العراقية ) ، المرأة الزاهدة ، على رأس هذه الشخصيات البارزة و الغامضة في آن واحد في التاريخ المبكر للتصوف الإسلامي ، فجل الروايات التاريخية لا تتفق على سنة محددة لولادتها فضلا عن و فاتها ألتي اختلفت ما بين عامي 135 هجرية و 185 هجرية ،كما أنها لم تكتب كتابا واحدا عن حياتها او تذكر فيه أهم أقوالها و ارائها في التصوف ،
وهذه الأمور كانت السمة الأبرز في كبار الصوفية الذين عاشوا في القرنين الأول و الثاني من الهجرة ، فقد كان زهدهم من النوع العملي لا النظري .
ولدت رابعة العدوية في بيت من أفقر بيوت البصرة ، حتى قيل إن ابويها لم يكن لديهم قطرة سمن حتى يدهنو موضع خلاصها ، ولم.يكن هناك مصباح و لا خرق للف الوليد ، الأمر الذي اضطر الوالد إلى الذهاب إلى الجيران للحصول على زيت لإضاءة القنديل ، ورخم ان الرجل كان قد عاهد الله ألا يطلب من أحد حاجة ، فإنه ذهب تحت إلحاح زوجته ، ورغم ذلك لم يفتح له أحد ، هنالك رجع والد رابعة اسيفا ، حتى أطرق على ركبتيه ونام ، فرأى النبي صلى الله عليه واله وصحبه وسلم في منامه قائلا له : لا تحزن ! هذه البنت الوليدة سيدة جليلة القدر ، وأن سبعين من أمتي ليرجون شفاعتها ، و أمره بالذهاب من صبيحة الغد إلى والي البصرة حينذاك .. عيسى زاذان .. ويكتب له ورقة يقول فيها : إن النبي زاره في المنام ، وقال له ان يتوجه إليه و يقول : إنك تصلي مئة ركعة ، وفي ليلة الجمعة أربعمائة ، لكنك في يوم الجمعة الاخير نسيتني ، إلا فلتدفع اربعمئة دينار حلال لهذا الشخص كفارة عن هذا النسيان ! فلما أفاق والد رابعة من نومه كتب الرسالة و دفعها إلى الأمير ، فلما قرأها أمر والي والي البصرة بإعطائه أربعمائة دينار وقال لهم :
ائتوني به لاراه ، ثم راجع نفسه و قرر أن يذهب بنفسه إلى هذا الرجل ليتبارك بهذا البيت .
رزحت رابعة في الفقر ، وزاد من ألمها وفاة والدها تاركا خلفه أرملة سرعان ما لحقت به ، ورابعة وأخواتها الثلاثاء ضعيفات فقيرات خائفات من الحياة و تقلباتها ، حتى وقعت الكارثة في قحط عام في البصرة اضطر أهلها على أثره إلى الخروج منها ، فتفرقت بهن السبل ، فرأها أحد الظلمة فاٌوقعها في الأسر وباعها بستة دراهم لرجل أثقل عليها العمل ، وفي يوم من الايام خرجت من بيت سيدها لقضاء حاجة ، فإذا رجل يرمقها بشر ، فخافت و اختبأت و ناجت ربها كثيرا ، ويتفق بعض من ارخوا لها أن هذه اللحظة كانت مفصلية في حياتها .
يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي : هذه اللحظة في حياة رابعة يجب أن تعد نقطة التطور الحاسمة في حياتها الروحية ، لكنها لا تزال في الأسر المادي لدى ذلك السيد القاسي الذي ارهقها فكان لهذا الإرهاق و الإعانات فضل انفجار روحها الباطنة النبيلة .
ظلت رابعة على منهجها عاكفة عليه لا تبرحه ، لا تريد سوى وجه الله و محبته و رضاه ، فقد أدركت الحقيقة و انبلجت لها من قهر المعاناة ، و ألم اليتم ، وضيم الاسترقاق و العبودية .
ليس ثمة شك في أن رابعة تأثرت برياح .. القيسي .. كما أنها تأثرت برجل آخر ملأت شهرته الآفاق ، و تربع على عرش التصوف في عصره وهو .. ابراهيم بن أدهم .. وفي مدينة البصرة جنوب العراق ، كانت حياة المدينة تجمع .. النقيضين .. بصورة لافتة و غريبه ، النعيم الصارخ البالغ أوج الشهوات ، و الزهد القاتم القاسي المعفر خده بالتراب ، فانتقلت رابعة من النقيض إلى النقيض في مدينة الأضداد تلك ، كما أنها أدركت أن توبتها كانت رضا من الله و إرادته ، وظلت فلسفة التوبة عندها تتكئ على هذا المعنى .
فقد روى .. القشيري .. إن رجل سأل رابعة : إني قد أكثرت من الذنوب و المعاصي ، فلو تبت ، هل يتوب عليّ ؟ قالت : لا ، بل لو تاب عليك لتُبت .
وبهذا يمكن فهم قولها : أستغفر آلله من قلة صدقي في قولي : أستغفر آلله ، وقولها : استغفارنا يحتاج إلى استغفار لعدم الصدق فيه .
أثرت حياة اللهو في توبة رابعة ، فهي حين أحبت في تلك المرحلة فإنها لم تنس ذلك الحب ، فقد اجترته معها في توبتها ، وجعلت حب الإله مدار زهدها ورؤيتها للتصوف ، وقت اصطبغت الشكوى إلى الله بصبغة الحب و الرغبة في الاتصال بهذا المحبوب الأعلى ، فقد أثر عنها أنها كانت إذا صلت العشاء قامت على سطح لها و شدت عليها درعها و خمارها ثم قالت :
،، إلهي ! انارت النجوم ، ونامت العيون ، وغلقت الملوك أبوابها ، وخلا كل حبيب بحبيبه ، وهذا مقامي بين يديك ، ثم تقبل على صلاتها ، فإذا كان وقت السحر وطلع الفجر قالت : إلهي ! هذا اليل قد ادبر ، وهذا النهار قد أسفر ، فليت شعري ! أقبلت مني ليلتي فاٌهناٌ ، ام رددتها عليّ فاٌعزي ؟ فوعزتك هذا دأبي ما احييتني و اعنتني ،وعزّتك لو طرتني عن بابك ما برحت عنه لما وقع في قلبي من محبتك ،،.
ترى المستشرقة الألمانية .. آن ماري شيمل .. وهي واحد من أهم من تناولوا تاريخ التصوف وكبار شيوخه برصانة ، أن رابعة العدوية كانت المرأة الأولى ألتي تدخل فكرة الحب الإلهي الطاهر في الفكر الصوفي ، وصار الحب منذئذن لفظا أساسيا عند عموم الصوفية ، كلفظ عام ، تشمل كل حركة باطنية تحمل ابعادا في جوهرها من حيث البحث في الوجود ، و القرب من المعبود من طريق الزهد ، وعندما يتحول القلب إلى مرآت صافية يمكنها إستعمال النور الإلهي ، فلصوفية عمقت من دراسة أدق خلجات النفس في طريقة مدهشة جديرة بالإيجاب .
بل وتزيد .. شيمل .. أن رابعة العدوية كانت فاتحة مرحلة إبداعية جديدة في الحياة الصوفية ، فقد صارت شيخة لمدرسة التصوف في العراق في زمنها ، ومن بين الكثير من أتباعها من الصوفية الذين كانوا يعيشون ببغداد وما حولها من المدن العراقية و أثمرت آثارهم يتجلى الشيخ الزاهد .. معروف الكرخي .. الذي كان من شباب معاصريها ، و الذي سيكون حجر الزاوية في توسيع رقعة التصوف وبسط نفوذه الجغرافي من المشرق إلى العراق إلى مصر بفضل تأثير شيخته رابعة العدوية ،
كانت رابعة تبحث عن حقيقة المعاني ، ليس فقط حقيقة الحب وحده ، بل ومعنى الصدق و مضمونة وكنهه و فلسفته ، روى فريد الدين العطار ان .. مالك بن دينار و الحسن البصري .. وغيرهما غدوا لزيارة رابعة فسألتهم عن معنى الصدق ؟ فقال الحسن : ليس بصادق في دعواه من لم يشكر على ضرب مولاه ، فقالت رابعة : هذا غرور ! وقال شقيق البلخي وكان حاظرا : ليس بصادق في دعواه من لم يشكر على ضرب مولاه ، فقالت : هنالك ما هو خير من هذا !! فقال : إبن دينار : ليس بصادق في دعواه من لم يتلذذ بضرب مولاه ! فصاحت رابعة : بل ثمة أفضل من هذا كله : فقالوا لها : تكلمي أنت إذن ، فقالت : ليس بصادق في دعواه من لم ينس الضرب فى مشاهدة مولاه ، مثل نسوة مصر اللائي نسين آلام ايديهن لما رأين وجه يوسف .
ظلت رابعة على منهجها عاكفة عليه لا تبرحه ، لا تريد سوى وجه الله و محبته و رضاه ، فقد أدركت الحقيقة و انبلجت لها من قهر المعاناة ، وألم اليتم ، و ضيم الاسترقاق و العبودية ، ظلت رابعة على ذلك حتى إذا حضرتها الوفاة دعت خادمتها .. عبدة بنت أبي شوال .. قائلة لها : يا عبدة لا تؤذني بموتي أحد ، وكفنيني في جبتي هذه ، وهي جبة من شعر كانت تقوم بها إذا هدأت العيون ، قالت عبدة : فكفناها في تلك الجبة ، وفي خمار صوف كانت تلبسه ، ثم رأيتها بعد ذلك بسنة او نحوها في منامي عليها حلة استبرق خضراء ، وخمار من سندس أخضر لم ار شيئا قط أحسن منه ، فقلت يا رابعة : ما فعلت بالجبة آلتي كفناك فيها و الخمار الصوف ؟ قالت : إنه و الله نزع عني ، وابدلت به ما ترينه علي” ، فطويت اكفاني و ختم عليها ، ورفعت في عليين ليكمل لي بها ثوابها يوم القيامة … قلت فمريني بأمر اتقرب به إلى الله عز وجل ، قالت : عليك بكثرة ذكره يوشك أن تغتبطي بذلك في قبرك ،،
وهكذا عاشت رابعة العدوية و ماتت وهي شيخة العاشقين ، المرأة ألتي افنت حياتها في حب الله قولا وعملا ، ظاهرا و باطنا ، حتى صار خفاؤها مثل علانيتها ،
رابعة العدوية
سألها الزاهد الأشهر .. سفيان الثوري .. يوما : ما أقرب ما تقرب به العبد إلى الله عز وجل ؟ فبكت وقالت : مثلي يسأل عن هذا ! أقرب ما تقرب العبد به إلى الله تعالى أن يعلم أنه لا يحب من الدنيا و الآخرة غيره هكذاكانت رابعة العدوية وعلى ذلك ماتت .. ولدت سنة 100 هجرية 717 ميلادية . الوفاة 180 هجرية . . 796 ميلادية . العمر 80 سنة . . مكان الدفن : جبل الزيتون .. بيت المقدس .

شاهد أيضاً

التضحية ديدن الطيبين

الأضواء /شيماء لطيف القطراني التضحية كلمة قليلة الحروف، كثيرة المعاني يصعب علينا حصرها في أسطر …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.