الرئيسية / آراء حرة / مهن منقرضة ( ساعي البريد (( البوسطجي ))

مهن منقرضة ( ساعي البريد (( البوسطجي ))

كتب : جمال عابد فتاح ـ العراق 

مع تطور حياة الإنسان الأول وتكوين المجتمعات البشرية، وجد الإنسان نفسه غير قادر على التفاهم مع الآخرين، فاهتدي إلي اللغة وعايش المجتمعات الأخرى، فاخترع الكتابة لحفظ إنتاجه الفكري وميراثه الثقافي والعلمي من الاندثار ولتتوارثه الأجيال اللاحقة، ففي سنة 5000 ق م ابتدع الإنسان الكتابة في بلاد الرافدين، وظهرت الكتابة على الألواح الطينية باللغة المسمارية عام3600ق.م، ومع التوسع في الزراعة وبداية ظهور المدن والمجتمعات الحضرية ورواج التجارة ، وظهور العجلة والسفن الشراعية، فكانت اللغة أداة اتصال وتفاهم. يحدثنا التأريخ من خلال الإشارة الى الاكتشافات والرقم الطينية عن وجود رسائل بين ملوك وادي الرافدين وبلاد الشام والفراعنة في مصر , الحمام الزاجل كان هو (البوسطجي) متحفظا بشخصيته اللطيفة سواء التنبه من هجوم والإبلاغ عن نقاط قوة وضعف المهاجم، بينما في عالمنا الذي عشناه ونعيشه أستخدم المطيرجية الزاجل في الرهان وليس لأرسال الرسائل أي بما معناه الكشخة ويحدثنا التأريخ أيضاً عن البريد الذي أسسه العرب القدامى بالاعتماد على الخيل والجمال وتبادل الإشارات بالنيران والدخان والطبول والمرايا في إرسال الأخبار والمعلومات خلال الحروب، ومع التقدم واتساع رقعة الخلافة الإسلامية وزيادة وامتداد الفتوحات الإسلامية التي وصلت إلى حدود الصين، ومع ازدياد مصادر الثروة وكثرة مؤسسات الدولة ودواوينها، أصبح لابد من وسيلة أكثر سرعة لذلك أدخل الخلفاء العباسيون استخدام الحمام الزاجل في نقل البريد، لما يمتاز به من سرعة فائقة بالإضافة إلى انخفاض تكلفة تربيته مقارنة بالجياد والجمال. وتشير الوثائق المتوفرة بأن أول مركز بريدي كان في البصرة إبان العصر الأموي لنقل رسائل الخليفة مع الولاة والجيش أيام الفتوحات الى آسيا، وتطورت الأساليب بأرسال رسائل بواسطة الفرسان الذين يستخدمون الخيل في العصور الرومانية والبيزنطية، وأستخدم العرب الأباعر والخيل، وبعدها بالسيارات والقطارات والطائرات. يعتبر العراق أول دولة عربية أنشأ فيها دائرة البريد عام1847وكانت الرسائل بين الخليفة العثماني والولاة وكذلك بين كبار القوم، وفي زمننا فأن دائرة البريد كانت تعين ساعي البريد وفق ماتمليه الشروط كالبساطة والأمانة وحسن القراءة وذو الأخلاق ألحسنة، وعادة الوظيفة تقع في أسفل السلم الوظيفي ومرتباتها ضئيلة ولهذا فأكثرهم يتقبل الإكراميات، فيزود بملابس مهنته االخاكي الفاتح، ودراجة هوائية، وحقيبة توضع على الكتف أو على الدراجة لنقل الرسائل والطرود والبرقيات، وفي القرى والمناطق الجبلية تكون الواسطة هي الحمير والبغال. يبدأ البوسطجي مشواره من الصباح وحتى الساعة الثانية ظهراً متحملاً قساوة برد الشتاء ومطره أحياناً وقساوة صيفه اللهاب وحره، ففي كل منطقة يوجد ساعي واحد معين من قبل دائرة البريد، تنتظر العوائل بكل شوق ولهفة مجيء ساعي البريد بدراجته ألتي فيها جرس المناداة، أومشياًعلى الأقدام حيث يركن الدراجة عند أحدى البيوت في الزقاق أو الشارع، وتتلقى العوائل الرسائل من أولادها في الغربة او من أهاليها الذين يعيشون في مناطق أو محافظات أخرى أو من معارفها، وفي بعض الأحيان يقرأ الرسائل الى أهل البيت ممن لا يجيدون القراءة الذين يطلقون عليه بأبو الأخبار الجيدة والحلوة، يعرف العوائل ووضعهم الاجتماعي وفي بعض الأحيان يكتشف أسرارهم ومع ذلك فهو أمين على المحافظة على أسرارها. العشاق بدورهم ينتظرون البوسطجي لتسليمهم رسائل الحب والشوق وهم يعرفون مواعيد قدومه، ويتفقون معه على تسليم الرسائل باليد دون أعطائها لعوائلهم، وسبب بذلك معروف حتى ولو تأخر التسليم، فهو حافظ لها. كان متفانياً بعمله، ولا يتمتع بإجازة بسبب عدم وجود بديل عنه، ومن خلال معرفته بالعناوين يقوم أحياناً بأرشاد السائلين من الغرباء عن عنوان من يريد الاستفسار عنه بعد التأكد عن السبب لمعرفة العنوان. كانت الرسائل تكتب بالقلم، كانت للرسائل طقوسها الزمنية الجميلة لأن فيها عنصر الانتظار، لأن أي مرسل يعد الأيام لتلقي الرد، وتستغرق الرسالة من أسبوع الى عشرة أيام لوصولها تبعاً لبعد ومكان الأرسال، ويفرح البوسطجي عندما يشاهد عبارة(شكراً لساعي البريد) المضافة الى عنوان المرسل، كلنا يتذكر مغلفات الظروف التي كانت أطرافها ملونة بمقاطع صغيرة مائلة من الأزرق والأحمر والغطاء المثلث الذي نبلله بطرف اللسان ونظغط عليه بقبضة اليد. في شارع الرشيد يقوم البوسطجي بإيصال الرسائل الواردة من المحافظات والمعنونة للطلبة والموظفين الذين يذكرون عناوين المقاهي التي يرتادونها بدل من سكناهم أو مكان أقامتهم في الأقسام الداخلية، وذلك لكثرة ترددهم أليها ومنها على سبيل المثال مقهى خليل ومقهى حسن عجمي وغيرها. و الطابع علامة مميزة توضع على أغلفة ومظاريف الرسائل او الرزم المعدة للأرسال بالبريد، وهي الأكثر استعمالا وتتألف عادة من فئات مختلفة تتناسب مع التعرفة المطبقة وهي تحمل صور الملوك والرؤساء والمشاهير أو معالم البلاد السياحية والدينية والثقافية والمشاريع الاقتصادية والعمرانية المميزة، فالطوابع البريدية الجميلة التي كانت تزيّن واجهة الأظرف كانت رائعة وجميلة زاهية بألوانها، وتحمل معاني ومعلومات، وكانت تسهم في تطور معارف الإنسان لمعرفة ثقافات وتقاليد الشعوب وصور مدنها وأعلامها ورؤسائها و..و..و..، أذاً كانت الطوابع البريدية على الرسائل باقة ورد وسلة معلومات إضافية نتعلم منها ونطور معلوماتنا، وعادةً تصدر الدول الطوابع البريدية بمناسبات مختلفة تخليدآ لتلك المناسبة، وتباع تلك الطوابع لإستخدامها في البريد اضافة لجامعي الطوابع والهواة الذين يبحثون عن الطوابع النفيسة والقديمة والنادرة. على مستوى الدولة، وفي السلك الدبلوماسي يكون أحد الموظفين ومن المؤتمن بهم بنقل البريد الى السفارات التي تتطلب تغير في الطائرات ويكون حاملا للكيس الدبلوماسي المختوم بالشمع الأحمر لكي لا تفتش من قبل السلطات، وتسلم الى السفارة باليد، وبالنسبة لرسائل رئيس الدولة الى نظراءه في الدول الأخرى عادة يكلف الوزراء والمبعوثين وأحياناً السفراء لتسليم الرسائل. هذه المهنة التي كان لها دور وتماس بين ساعي البريد والناس وأشواقهم وحلاوة الانتظار قد حصل فيها تغير بسبب التطور والتغير بأسلوب تلقي وأرسال الرسائل، فأصبح الانتظار والشوق والأخبار يأخذ دقائق وأن لم نقل ثواني وفي أية بقعة في العالم، بفضل مواقع التواصل الاجتماعي مع لقاء الأحبة والأصدقاء وحتى التعارف، وثورة الاتصالات بمساعدة محركات البحث للعبور نحو المعلومة، وحل البريد الإلكتروني محل الرسائل، كما أن صناديق البريد كانت أيضا تطوراً قلص من مهنة ساعي البريد البوسطجي التقليدية، وأصبحت هناك شركات متخصصة لنقل البريد لقي لا أحد يشعر الآن بمتعة تف، وغيرها والاكسبريس وال.ت.ن.ت مثل الدي.أج.المهما ، لأن فكرة الغياب نفسها اندثرت وأي شخص غائب أو حبيب رسالة من قريب. ترنية والموبايل والمسجات الآنية كان بعيداً فهو قريب بفظل الأن وفي عالمنا اليوم بدأ بعض الساسة معترك البوسطجية كساعي بريد، حيث يكلف بنقل رسائل ورغبات وتوجيهات الجهة التي تجنده خدمة لأغراضها مع الأطراف المقابلة، كما أن بعض الفضائيات تقوم بوظيفة البوسطجي لخدمة وأهداف من يرسم لها طريقة المخاطبة والأثارة وفبركة وإخراج الخبر أو الحدث!. يبدوا أن دور البوسطجي التقليدي آخذ بالاندثار، في حين أن الرسائل المهمة والسرية حول المشاهير والرؤساء والزعماء ورسائل بعض من الملوك والأميرات بدأت تتجه الى المزادات وباتت سلعة قيمة للتجارة وتجلب الكثير من الأموال ، .. تلك المهنة القديمة، حيث لا تزال بلدان متقدمة تواصل عبر البريد العادي من خلال رسائل خطية أو هدايا رمزية، شيء جميل وشعور لاية من يمكن وصفه ينتاب الشخص عندما يستلم بعد شوق وطول انتظار رسالة خطية، على عكس الرسائل عبر البريد الإلكتروني…. في الختام فأن الرسائل المكتوبة بخط اليد تبقى دفئاً ولها استنشاق لراحة وعلاقة المرسل للمرسل أليه، الرسائل التي كانت تصف دقائق الحياة بالتفصيل ولولاها لما فتحت نافذة على التأريخ، وهل يوجد من عاش زماننا وما بعده من لم يتذكر قيمة وعبق الرسائل المكتوبة بخط اليد ورسائل العشق والرومانسية حيث تشم سطورها وتقبلها وتضعها على عينيك وتلمس حروف كلماتها.. سنظل نذكر بكل فخر واعتزاز مكانة البريد وبوسطجيها في حياتنا ،وسنظل نحلم بقيمة وروعة الرسائل وهي مختومة بعدة أختام وتزينها الطوابع بأنواعها وأشكالها وصورها الجميلة ، انه من الصعب أن تنقل بأمانة تجربتك مع الرسائل الى الجيل الحاضر وتحدثهم عن احساسك الجميل عندما تستلم الرسائل وتقرأها أكثر من مرة وتعيش على جميل عباراتها ، لا تستطيع جميع وسائل الاتصال أن تحسسها..

شاهد أيضاً

العيد وفرحة الأطفال

قلمي. منى فتحي حامد – مصر عيد الفطر فرحة الكبار والصغار، يأتى بعد صيام شهر …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.