كتبت : نجوان حكمت
في كل عام، حين يحلُّ يوم النصر، ينهض في ذاكرة العراقيين فصلٌ كامل من الحكاية… فصلٌ كُتب بالدم واليقين، لا بالحبر وحده. إن النصر الذي نحتفل به ليس صفحة في كتاب التاريخ، بل هو جرحٌ مضيء، علّم العراقيين معنى أن تنتصر الروح حين توشك الأرض على السقوط، ومعنى أن ينهض وطنٌ بأكمله من حافة الفناء ليقول للعالم: ما دام في القلب نبض، فالوطن لا يموت.
لقد مرّ العراق في مرحلةٍ ظنّ فيها العالم أن النار ستأكل ما تبقّى من جذوره، وأن الخراب سيبتلع ذاكرته الممتدة لآلاف السنين. لكن هذه البلاد، التي قاومت غزوات الملوك والإمبراطوريات، لم تسمح أن ينكسر اسمها في القرن الحادي والعشرين. وقف الجندي العراقي في تلك اللحظة مثل شجرةٍ تعرف اتجاه الضوء وحدها؛ لم يحتج إلا إلى يقين داخلي يقول له: إن هذه الأرض تُدافع عن نفسها بمن يدفع عنها، وإن الحقّ مهما خفت، سيبقى أقوى من الظلام مهما اتّسع.
إن يوم النصر ليس انتصار بندقية على أخرى، ولا معركة عسكرية تُختصر بخططٍ وخرائط. إنه انتصار الإنسان على اليأس، وانتفاضة الوعي على السقوط. في ذلك اليوم، أدرك العراقي أن الكرامة ليست شعارًا وطنيًا، بل هي نبضٌ يسكن في عمق الروح؛ فإذا أُهينت، اهتزّ كل ما حولها. لقد حارب العراقيون يومها دفاعًا عن كرامتهم قبل أرضهم، وعن إنسانيتهم قبل حدودهم.
حين نستعيد يوم النصر، نتذكّر شهداءنا ليس بوصفهم ضحايا حرب، بل بوصفهم حكماء اللحظة الأخيرة، الذين أدركوا أن حياة الفرد قد تنتهي، لكن حياة الوطن لا ينبغي أن تُترك لقدرٍ مجهول. هم الأبطال الذين ذهبوا بأسمائهم الشخصية، وعادوا إلينا رمزًا أكبر من كل الأسماء.
ونتذكّر جرحانا الذين وقفوا على مسافةٍ صغيرة بين الحياة والموت، فاختاروا الحياة لا لأنهم خافوا من النهاية، بل لأن الوطن كان يحتاج بقاءهم.
وإن أمّ الشهيد، حين رفعت صورة ابنها، لم تكن تمجّد الحرب؛ كانت تمجّد فكرة أعمق: أن الوطن قد يتعب، لكنه لا يُسلم رايته، وأن الألم حين يُحمل بإيمان، يتحوّل إلى معنى. تلك الأمهات هنّ الصفحة الأكثر قداسة في تاريخ النصر، ودمعتهنّ هي السطر الذي سيبقى ما بقي العراق
يوم النصر ليس استراحة بعد معركة، بل هو بدءُ معركةٍ أخرى: معركة الوعي، معركة البناء، ومعركة حفظ ما تحقق. فالنصر لا يكتمل حين ينجو الوطن من الحرب، بل حين ينجح في أن يبني سلامًا يليق بتضحيات أبنائه. لقد أثبت العراقيون أن القوة ليست في السلاح وحده، بل في الإرادة التي تجعل من الإنسان سدًّا في وجه المستحيل.
وحين ننظر إلى ما بعد النصر، نُدرك أن العراق، رغم الجراح، يمتلك قدرةً خارقة على التجدد، قدرةً تشبه نبتةً تنمو من بين الحجارة… لتقول إن الحياة أقوى من الخراب، وإن روح الوطن أعمق من كل ما يُهدد وجوده. فالعراق ليس مجرد حدود جغرافية؛ إنه ذاكرةٌ تمشي في دم كل عراقي، وهويةٌ وُلدت من صبر حضاراتٍ امتدت آلاف السنين.
إن إحياء هذا اليوم هو تذكير لنا جميعًا بأن الوطن لا يحيا بالذكريات فقط، بل بالموقف، بالمحبة، بالإخلاص، وبالعمل. وأن الحفاظ على النصر لا يكون بالشعارات، بل بأن نكون على قدر مسؤولية السلام الذي منحنا إياه الشهداء. فكل لحظة استقرار نعيشها اليوم، كانت ثمنًا لحياة إنسانٍ ضحّى كي نصل إلى هذه النقطة.
سلامٌ على أولئك الذين واجهوا العاصفة كي لا تُطفأ بيوت العراقيين.
سلامٌ على الذين عادوا بلا أطراف، وبقلوبٍ أكبر من الألم.
سلامٌ على الذين رحلوا وتركوا وراءهم وطنًا يقف اليوم أكثر ثباتًا، وأكثر وضوحًا، وأكثر معرفة بقيمته.
وسلامٌ على العراق…
ذلك البلد الذي كلما حسبه العالم يوشك أن ينهار، نهض من جديد مثل فكرةٍ خالدة لا يمكن أن تُهزم
جريدة الاضواء الالكترونية
