الرئيسية / الثقافية / تلميذة مشاكسة

تلميذة مشاكسة

قصة قصيرة …. 

محسن محمد تقيٍ العراقي

نباح الكلاب يترجع في جوف ليل ملفع بالضباب, ساعات الفجر المتصحرة تسدل ستار الاعياء على جفون هدها السهر . كيف يغفو المرء ورأسه يعج بذات الاسئلة العقيمة , اميال الساعة العتيقة تجري كأن وحشا مخبوء اطل برأسه من ظلمة الزمن يجري خلفها . اميال تدور في فراغ الاحاجي . كل شيء كان يعوم في بحور قاتمة الليالي والبشر من حولك مثل احياء تحرشفت بالحرمان, يتربص بها قتلة الاحلام بمشاريع دموية. مستنقع اعمارنا غدا آسناً , خليط من ماضٍ عفن وحاضر مدجج بالخيبة. في ذلك المساء تمزقت السماء برصاص يأز شوقا لأختطاف الحياة والضحية طفل. للحكاية في وطني سجن من ندم يتآكل الذين همهم غسل الشرف بدمٍ بارد بلون الدود. تلك الليلة خرجنا نحمل نعشاً صغيرا لشهيد لم يبلغ العشرون ربيعا ومن اطرافه برزت بقع دم متجلط لها لون ليلنا الحزين , ليل يترجع فيه عويل الامهات؛ صوت مبحوح وحشرجات ميتة. حين ترتضي الانسحاق بين رحى الجنون او التبعية فلا خلاص اذ الزمن يدور ولا صوت يعلو على نباح البلايا وفحيح النكبات. اشرقت الشمس بخيوط ذهبية غسلت قلوبا تلفعت بالاسى, صباحٌ هجم في ثمالة صمته كلاب مسعورة تطارد قطا مذعور يتوسل بمواء يقطع نياط القلب . الموت يزحف بصمت مبتلعا كل شيء خلاف ماضينا الذي جاد بموت يمثل بداية حياة اخرى, ينزل ضيفا خفيفا على جسد اغترف من الدنيا كفايته حتى هرم .علا قرص الشمس متبوعا بريح باردة تراقصت لها الارواح. في ذات المحلة البائسة دخلت عجوز تتهادى على بقايا حصى تناثر على الاديم تجر كيسا بحجمها , عجوز اكتسى وجهها بغضون كأنها وهاد ارض لم تطأها قطرة مطر , وجه مدور صغير وانف تربع بين عينين صغيرتين اختبأن خلف نظارة متسخة العدسات حدباء بما يكفي لتمس انامل يديها الارض, تجر وتجر بعناد كيسها العصي المتخم بالمكانس تطوح به تارة واخرى يخضع ليا تحت سلطان يديها كأنما تقاتل عدوا منذ امد. وتنادي بصوت رخيم: (مكانس للبيع) . توقفت في تقاطع الزقاق ترمق مجرى مياه آسنةٍ كأنها تبحث عن شيء عدمي تمنت لو يرتد من جوفه جواباً علها تطمئن ان لهذا الشقاء حد. ولازالت تنادي كلما لمحت مارا وتناجي كالذي يناجي نفسه بصوت مبحوح من فرط التعب_ (مكانس للبيع.. محد يريد… محد يشتري) وفي غفلة برزت لها صبية صهباء مورقة.
_ياجدة خذي هذا الدينار.
_لا يابنيتي لن اخذ شيئا دون ان تأخذي مكنسة.
انهار سد دموع الفتاة فارتمت في احضان الجدة.
_ جيد..تفضلي اذا ياجدتي لترتاحي في دارنا قليلا والرزق على الله.
_لا يابنيتي فلدي فتاة عمياء تنتظرني.
عمى وفقر وضياع وتلاشي وصفعات زمن لايريد فكاكا. يئستِ الفتاة من عناد جدة صهرتها الصروف. ذكرتني بجدتي التي كانت عصية قوية صبور لاتهدا ولاتكل وهي ترعى دارا تتوارد عليها وجوها كثيرة .. في مدينتنا الصغيرة جثامين الشهداء مثل سكة قطار لامحطة له ولا نعرف لِمَ يأتي محملا بالجثامين؟ كل صباح نصحو والحزن رفيق يومنا ! اخذتني الذكرى الى يوم قديم كان يصحبني ابي المعلم الى المدرسة وهناك كنا نعيش اجمل ايامنا التي لم نعلم انها ستختم بتعاسة بعد ان جاوز عمارنا السبعون حريقا . في تلك الايام الجميلة كنا نتخاصم بطرق مضحكة تصل حد الاشتباك بالايدي ومن بين تلك الايدي كانت للتلميذة جميلة التي تفتعل الخصام ثم تذهب الى المعلم باكية مدعية انني ضربتها فيجلد راحة يداي بعشرين موجعات .تلتهب نار الغضب في غضاضة قلبي الهش ولا املك سوى صفع جميلة بكلمات كانت تجتاح اسماعنا البريئة فتنطبع فينا ملوثة الارواح كما تتلوث الورقة البيضاء… فقلت غاضبا :سأدعو الله كي تموتي من البرد..كلمات طائشة لطفل قتلوا فيه الجمال فاعتصم بالقبح .
_جدي جدي: تفضل اشرب الشاي.
دعوة حفيدي قطعت شريط الماضي واسلمتني لدفء كوب من الشاي وحوار خفيف في دوحة الطفولة. وفي غمرة الحوار صدح ذات الصوت:
(مكانس للبيع .مكانس للبيع )
سأل الحفيد :
جدي انها عجوز كيف تقوى على جر كيس بحجمها؟ _
_الجد : متطلبات الحياة يابني.
_ الصبي : جدي انها قرب باب دارنا تتكأ عليه انٍها مرهقة والريح باردة جدا. خلال دقائق تجمهر الناس قرب الباب ذهبتُ لأستطلع الحال, كانت العجوز ملتّفة بعباءة استحال لونها الاسود الى مجرد خرقة بلون صدئ تكورت لتحتمي بها من لفح الريح الباردة لقد تجمدت فتوقف قلبها الصغير وفي المستشفى علمت انها جميلة جبار التلميذة المشاكسة البريئة .

شاهد أيضاً

صدور كتاب (فلسفة الحرية في النص المسرحي العربي المعاصر) للباحث البصري (صلاح حمادي الحجاج)

الأضواء / حيدر علي الاسدي صدر عن الهيئة العربية للمسرح في الامارات كتاب (فلسفة الحرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.